عن الطعام الذي لا أفهمه
لا
أفهم هذا الطعام” جملة ربما
إن حاولت شرحها لك لن تفهمني أيضاً، فهى تعبر عن جهلي بتلك الوجبة وتلك الشطيرة التي
أقف حائراً أمام محتواها، وذلك المشروب غريب الطعم والرائحة أيضاً، والألوان الأطعمة
التي لم تعد تعني تعدد الأطعمة بالنسبة لي؛ بل أصبحت تنحصر في معناها العادي وهو
اكتساب كل طعام لوناً وكأنك في متحف لفنان تشكيلي يعاني من اضطرابات نفسية.
أشار
علي أحدهم في أولى أيامي هنا بأن أجرب ساندويتش يطلقوا عليه “بُراتا
تشيكن” والتي ما إن جربتها
حتى أعجبت بها وكنت على وشك أن أعجب بكل ما هو آسيوي بداية بطعام الهنود ونهاية
بطعام الفلبينيون، لم أكن أفكر وقتها في أن هذه آثار التجربة الأولى أو ربما تكون
تلك الوجبة الوحيدة التي نجح بها صاحب المطعم، حتى جربتها من أكثر من مطعم و
كافتيريا ومحوتها من رأسي تماماً، بعد إن أكتشف أنها في الغالب تقدم حارة كجمرة
مخلوطة بمسامير. وبالفعل انتبهت إلى أن الرجل هو الوحيد الذي قدمها بتلك الروعة
خاصة بعدما حل آخر مكانه فأصبح يقدمها بطريقة تسئ لكل محتويات مطعمه.
في
أول عزومة لي من طرف أشخاص من جنسيات أخرى، كان هناك شخصين من جنسيتين مختلفتين،
تأخر الطعام فاستعجلوه وتأسف أحد المديرين عن ذلك وظهر طبق السلطة بتقطعه الغريبة،
وجدت من حولي يمدون يديهم للطبق وأحدهم يسألني لماذا لا أشاركهم ذلك، ظننته يسخر
من تأخرهم مرة أخرى، حتى تبينت أن الطبق من المقبلات، جاءت أطباق الطعام المطلوب
بعدها ومرة أخرى نظر لي نفس الشخص وتسائل عن امتناعي عن الأكل، كنت مشغول وقتها
بالنظر من النافذة ولم أكن أنتبه إلى أنهم بدؤا الطعام، بحثت عن الملاعق وتفاجئت
أنهم يأكلون كل شئ بأيديهم دونها، حتى ابتسم أحدهم وطلب بأحضار ملاعق وتحدث عن سبب
تناولهم بدون ملاعق وتاريخ ذلك وفي النهاية قال لي ستتعود. وقتها علمت أن العادات
كفيلة بأن تلقي بك يميناً ويساراً فور وصولك لأي ثقافة غريبة عنك.
أعجبتني
تلك الوجبة التي أكلناها ذلك اليوم في المطعم، ووجدت مطعم قريب يقدمها بسعر رخيص
وفي معلبات حسب الطلب، قررت أن أجربها بدافع الشوق والفضول لأكل غرامي، وصدمت
عندما رأيت كمية اللحم التي تكاد تنفجر في الوسط، وما إن تمكنت من أول قطعة حتى
كادت أسناني أن تسقط من مكانها، لقد كانت أغلبها عِظام وليس لحم، حتى أن الوحيدة
التي وضعت الأمل بها كانت قطعة من القرفة، وكأني طلبت طعام قطط وكلاب بدلاً من
طعام البشر، وقتها فقط علمت أن الوجبة يجب أن تكون من مطعم مشهور وثمنها ليس بذلك الرخص،
وقد سنحت لي الفرصة بتجربتها في مطعم يمتلك من الشهرة ما يكفي لتجربتها به، تلك
الشهرة التي لطالما حلمت بأن آكل في ذلك المطعم بسببها، حتى تحطمت كل آمالي بعد
تذوق الوجبة، والتي لم تكن سيئة لتلك الدرجة، بل إنها لم تصل للتوقعات التي وضعتها
على شهرة ذلك المكان، تلك كانت قصة البرياني.
كنت
متشوق جداً للطعام الهندي قبل أن أتذوقه، لكن ما إن أقتربت منه ومن الهنود عامة
وجدته لا يتناسب إطلاقاً مع أشكو منه من أمراض بالمعدة، فهو عبارة عن توابل بهارات
وشطة وكل ما هو حار ومسالا، تلك الأخيرة دوماً ما كنت أشمها في حياتهم وليس طعامهم
فقط، جربتها مرة عن طريق الخطأ وكان خطأ جميل لمعرفة اسمها، وحظي الجيد أنها كانت
في كيس اندومي أي أني لن أحزن على فقدانه، وجدت مذاقها في مذاق صلصة بعض مطاعم
الكشري المصرية، وقتها فقط كأني أكتشفت سر المطعم الهندي، وأصبحت أتجنب كل ما
التصقت به تلك الكلمة.
كنت
أبحث دوماً عن المطعم الباكستاني، خاصة وأني أشعر أنهم أقرب للمصريين، لذا كنت
أجوب الشوارع بحثاً عن أي مطعم يحمل اسم باكستاني، وبالصدفة وجدت مطعم قريب منزوي
رغم كبره، وأحضرت معي شخصين ليحضرا ذلك الإكتشاف الرهيب الذي فزت به بعد عناء،
وكأني متخصص الجودة في الأكل الباكستاني، طلبنا قائمة الطعام ورغم وضوح غالبية
الكلام إلا أنا كان يروادنا الشك في نصف الكلام الآخر، لذا أختاروا أقرب شئ
يفهموه، أما أنا فسألت أولاً عن الطعام الذي يخلو من الشطة في تلك القائمة، فجاء
الرد الصادم بأن كل الطعام حار، حتى أن الرجل لما تبين أني لن آكل أشار لي على
قطعة دجاج في القائمة وادعى بإنها ليست حارة، وهى بالفعل لم تكن حارة بتلك الدرجة
التي تصورتها، لكنها كانت تنطوي على كمية من التوابل المخفية التي كادت تفجر
القولون بعدها رغم جمال مذاقها.
لم
أجد بعدها الكثير من المطاعم الباكستانية التي تشبع رغبتي في تذوق كل ما لذ وطاب
وليس حار، حتى أكتشفت الخبز الباكستاني وأغرمت به، وهو يشبه إلا حد ما الخبز
المصري الذي يصنع في المنازل الريفية. وبمناسبة ذكري للخبز المصري وجدت مخبز يعده
بالصدفة وأنا أتجول، وكأني عصرت على قهوة المصريين التي ذهب إليها محمد سعد في
تركيا، حتى أني قبل أن آكله جاوبت كل من سألني عن مكانه بسعادة تفوق سعادة صاحب
المخبز عندما سألته عن إن كان الخبز مصري أم لا. حتى صدمت بقطع من العجين المتكدس
بين يدي وكأنه ترك بلده نفياً وقرر أن ينتقم بالإساءة لها هنا بخبزه ذلك.
…

إرسال تعليق