يوميات إنسان من العصر الحجري (1): رحلة للمحكمة الطبية

يوميات إنسان من العصر الحجري (1): رحلة للمحكمة الطبية

عندما تكره شخص فأنت في العادة لا تحب أن تسمع عنه شىء، لا تريد أن يخرج اسمه من بين شفتيك ولا حتى أن تتلقاه أذنك بالصدفة وسط الزحام، قد تقوم بحظره من وسائل التواصل الاجتماعي، أو ربما تلعن كل الأخبار والمنشورات التي تتحدث عنه، وتدخل في مشادات مع كل من حاول أن يفتح معك موضوع حوله. هذا ما فعلت، أقسم أني فعلت ذلك وأنا مرتاح البال، حتى جاء ذلك اليوم الذي احتضنني به أو احتضنته لأكون صادق المعنى، لكنه أسوأ لقاء وأسوأ احتضان مر علي منذ ولدت وحتى يومنا هذا، إنه كحضن الجندي لإرهابي قرر أن يقتله وأن يفتك به فتلاحمت دماؤهم حتى تلوثت دماء الخير بدماء الشر.

وجوه مشوهة

لأول مرة أنزل إلى الشارع بعد إصابتي الأولى، رأيت الواقع بشكل أوسع مما كنت أراه من نافذة الغرفة، أشخاص أقل بملامح غير مكتملة مشوهة بقناع لا يحجب شىء آخر غير وجوههم، يخشون الغرباء وكأن المرض لا يصيب أي شىء غيرهم، هناك رأيت ذلك العامل ينتفض من مجلسه مع مرور كل شخص من بوابة العيادة ليمسح مقبضها ويعقمه، مقاعد فارغة تتوسط كل اثنين لا يجلس عليها من اشتكت أقدامهم من الوقوف بجوار بعضهم البعض، أحاول الا أسعل وأخشى من استخدام المناديل الورقية، فمن هنا سيصدقني بأني أستعملها منذ عقد من الزمن؟ الطبيب لم يكن يخشى قدمي المكتومة لأكثر من شهر في جبس متعفن، كان يخشى فقط أن تلامس قفازه قفازي، أنا نفسي كنت أخشى ملامسة الحياة خوفاً من أن تكون الموت.

مايسترو بالمنزل وفرقته بالشارع

مرت الأيام حتى حكى لي رفيق الغرفة المغرم بالأخبار بأنهم اكتشفوا حالة جديدة بالمرض في منطقة عمله، لم يصبني الشك وقتها مثلما فعلت في أول ظهور له ببلد تبعد عنا آلاف الكيلو مترات، فقط كررت نفس كلامي “لا تتحدث معي عن هذا الموضوع”، نسيت الأمر حتى باتت أصوات الإسعاف تدق مثل ناقوس الحرب، كلما اقتربت أكثر كلما أقترب معها المرض والموت، الشوارع أصبحت مسرح موسيقي مرعب، مزمار الشرطة يختلط مع ساكسفون الإسعاف، لا أحد يشتكي رغم ذلك فالجمهور كان يصفق ويصفر ويزغرد في الشرفات دون مبالاة بوجود المرضى على بضع خطوات منهم.

مع ازدياد كلام الرفيق عن المرض ظهرت عليه أعراض متشابهة لتلك التي يحكي عنها، هل الوهم أصابه؟ يوماً والثاني والثالث والأعراض تتشابه أكثر فأكثر، ذهب للتحليل الذي تأخرت نتيجته لمدة 10 أيام، خلالها كاد يرتاح نفسياً من عدم إصابته، الأعراض بدأت تختفي تدريجياً مع مرور الأيام، لذا فهو الوهم!! أو لا. فقد تلقى اتصال في اليوم العاشر يخبره بنتيجته الإيجابية وعليه الالتزام بالمنزل. هنا فقط تحول الوهم لحقيقة، فلدينا مثل شعبي: “اللي يخاف من عفريت يطلعله” وها قد ظهر العفريت وسطنا لينغص علينا الحياة؟ ليفترق كلاً منا في غرفة مُلْتَحِفًا بكل ما لديه خوفاً من العفريت الذي بات يتواجد ليل نهار، لكن هيهات.. إن ظهر العفريت فلن يختفي إلا أن التبس أحد آخر.

وهم تفاؤلي

وكما هناك وهم تشاؤمي هناك أيضاً وهم تفاؤلي، فها قد مر 14 يوماً ولم تظهر علي أي أعراض نظراً لمناعتي القوية ربما، أو لأني لم أنزل للشارع منذ إصابتي الأولى سوى مرة أو مرتين بالكثير آخذاً كل الاحتياطات من كمامة وقفاز ومعقم حتى القبعة كنت أرتديها لذا من أين سيأتيني إن كنت لا أخطو سوى بضع خطوات فقط من المنزل للسيارة ومن السيارة للعيادة حتى العودة، لا شىء سيصيبني ما دمت عزلت ومر أسبوعين دون ظهور أي أعراض، فالسعال الذي لدي معتاد عليه، ورشح الأنف والعطس الذي أصابني كان نتيجة للدش الساخن وخروجي تحت المكيف مباشرة، أما ضيق التنفس فربما لاقتراب الصيف وانتشار الرطوبة، فأي أعراض تلك التي أنتظرها بعد أسبوعين وأنا بخير حال.

يومها استيقظت من النوم على رنين الهاتف -كان اليوم الخامس بعد التحليل- أكدت اسمي للمتصلة وقبل أن تخبرني هي أخبرتها بأني أعلم، ولا لم تأتيني رسالة ولم يتصل بي أحداً قبلك..أنا فقط أعلم، فالاختلاط السابق مع السعال ودور الإنفلونزا وضيق التنفس واحمرار العين الدموي ووصول رسالة للرفقاء قبل اتصالك هذا بثلاثة أيام؛ كل ذلك كفيل بأني أعلم منك بإصابتي، لكني بخير حال شكراً لإتصالك..

رغبة في الطلاق

فور أن تتلقى ذلك الاتصال ستصاب بوهم من الدرجة الأولى، هذا ما حدث مع الرفيقين ومعي، فقد اشتدت الأعراض وأصبحنا في أمس الحاجة لسماع صوت ساكسفون الإسعاف الذي سيزفنا إلى المحكمة الطبية لتبت في الطلاق بيننا وبين هذا المرض، لكنها تأخرت قليلاً..قليلاً..قليلاً حتى كدنا نذهب نحن إليها، وها هي تعلن البشرى الأولى، الرفيق الأول يذهب للطلاق دون الشهيدين، فمن سيشهد له على سوء معاملة شريك الموت له؟

خلال فترة الحجر المنزلي انفصلنا في غرفتين عن باقي الشقة مع دورة مياه منفصلة، الطعام والمشروبات في أطباق وأكواب استعمال مرة واحدة، وبناء على توصيات من و.ص استخدمنا بنادول للصداع ودواء للسعال بالإضافة للزنك وفيتامين سي -لا تأخذ كلامي روشتة- مع الكثير من الخضروات والفواكه والسوائل الدافئة والساخنة والسائلة والصلبة.

المكالمة الثانية للرفيق الثاني، والذي أصر هو والرفيق الأول بأن يشهدا لي على سوء معاملة المرض لي وأصابته المتكررة بكدمات في كل جسدي، لكن اسمي لم يكن مدرج ضمن أسماء الحاضرين بتلك المحكمة الطبية، لذا لن أستطيع الذهاب إلا.. في الاتصال الثالث وافقوا على أن أذهب برفقة الرفيق الثاني وسيحاولوا إدراج اسمي فور وصولي بالتنسيق مع الوزارة، وهو ما حدث خلال ساعة على الأقل، لكنه حدث..

حقوق الصورة لـPexels