الخصوصية ما قبل حقبة الشبكات الاجتماعية

الخصوصية ما قبل حقبة الشبكات الاجتماعية


إن كنت تظن أن الشبكات الاجتماعية هي أول من أقتحم بيوتنا وأباح خصوصيتنا لكل من أراد ومن لم يريد، فأنت مخطئ. أنا مثلك كنت أظن ذلك تماماً خاصة مع استعادة ذكريات ما قبل الشبكات الاجتماعية، وكيف كانت الحياة يطغى عليها حب الخير للآخرين وعدم إقحام الأنوف..

أتذكر عندما كنت أمر من الشارع وأرى الأطباق تتداول بين البيوت، أتذكر أيضاً أن تلك الأطباق لم تكن تحمل ما لذ وطاب من الطعام فقط، بل تحمل معها من الهمز واللمز ما يكفي لنسيان موعد الحلقة الأخيرة من مسلسل سوق العصر، فالحكايات الموجودة في المسلسلات لم تكن إلا لملئ فراغ الحكايات اليومية التي تحكى بين سيدات الشارع والأحياء المجاورة.

إن سيدات الشارع قل تواجدهم بالشارع، بعد أن زاد تواجدهم على الإنترنت، فقد تطورت الصالونات الشعبية الآن وانتقلت إلى برامج المراسلة، فأصبحت هناك جروبات للنميمة المحلله.. للأحداث الجارية بالمنطقة، وحكاوي المسلسلات لم تعد تكفي، فأصبح اليوتيوب هو الملجئ الوحيد للبحث عن طريقة لإقحام الأنوف وإطالتها لتعبر محافظات ودول وقارات، لمعرفة ما حدث مع حماة سميحة اللطيفة بعد أن التقت بضرتها.

أتذكر أيضاً صالون الحلاقة الذي كانت تتساوى الرؤوس به تحت يد الحلاق في أبهى مساواة عرفها التاريخ، أتذكر جيداً عندما كانت الرأس تنحني أمام الحلاق وهي يصب منها كل أسرار العائلة، حتى تكاد تغرق المنطقة بأكملها، لولا أن الحلاق -أكرمه الله- يلحقها بالمنشفة فيأخذ ما أراد منها ويخرج الباقي على أعتاب المحل ليعطي المنطقة طراوة ما بعدها طراوة وهو يخرج تنهيدة تكاد تقتلع صدره مردداً "محدش سايب حد في حاله يا عمي". وهي أصدق كلمة تخرج من أكثر أهل المنطقة حكمه وعلماً بأحوال الناس.

حلاق المنطقة ما زال هو نفسه أعلم أهل المنطقة، حتى وإن كان بنغالي أو باكستاني سيمتاز بنفس الطبع والخصال، ومع تطور التكنولوجيا حاول البعض أن يمتهن الوظيفة الثانوية لحلاق المنطقة، لكن غالبية المحاولات أكاد أزعم أنها قد تعرف سر خلطة كنتاكي، لكنها حتى الآن لم تستطع معرفة سر حلاق المنطقة أو نوعية المنوم الذي يضعه لعملائه لمعرفة أعمق أسرارهم الدفينة، وقد كنت أظن حتى وقت قريب إنها الكولونيا -وتحديداً 555- لكنني تذكرت أنها توضع بعد انتهاء العملية وليس قبلها.

يستثنى من كل تلك المحاولات محاولة صاحب علامة كومة السكر مارك زوكربيرج، والذي يبدو أن أبيه أو جده لم يكن صاحب محل حلاقة بل كان صاحب مقهى -قهوة شعبية- والذي استطاع بحنكة أن يستفيد من كل تلك الرؤوس الموجودة بالمقهى دون أن يعلم أحد، لكن يبدو أن حفيدة عندما ورثها كشف سره للعالم أجمع وأصبح لا يخشى شيء بعدها.

المقاهي القهاوي الشعبية التي توجد على النواصي وفي الطرقات، كانت ومازالت هي أكثر الشبكات الاجتماعية رخصاً على مر التاريخ، فكوب الشاي/القهوة الذي كان سعره يقترب من سعر التراب -أيضاً كان يقترب من نفس سعر العلبة- هو أقرب مثال للشبكات الاجتماعية المجانية وخاصة موقع ابن زوكربيرج..

ففور أن تتناول مشروبك مع رفيق الطاولة، حتى تجد نفسك تعيش في المدينة الفاضية وتسرد كل ما تعرفه -من أسرار- وما لا تعرفه -من إشاعات- وكأنك وحدك في المدينة، الأمر الذي احتضنته شبكات أكبر بعد إن اكتشفته في البدايات وأصبحت تضع جامعي البيانات، مثل الرجل الأمي خلف الجريدة، والرجل الذي يرتدي نظارة شمس وقت طلوع القمر، والرجل ال.. وانت عامل إيه؟

إن جلست أسرد لك كل ما قبل حقبة الشبكات الاجتماعية "الحديثة" ربما لن أنتهي، وإن اختلفت عندك -أشك في ذلك- فهي مازالت تنوب عن كل تلك المواقع والشبكات الحديثة، والتي مللنا من كثرة الحديث عن جمعها للبيانات وإباحتها للخصوصية، وكأن خصوصيتنا لم تكن مباحة قبل ظهورها، وكأننا كنا نعيش في أبهى عصور الخصوصية الصماء، متناسين كل تلك الشبكات الاجتماعية "القديمة"، طالما إنها لن تصل بأسرار بيوتنا وعملنا إلى أبعد مما كنا نتخيل!! ناسين أن حالات الطلاق والخصام والمشاجرات بل وسرقات الأفكار بدأت من اختراق خصوصيتنا وإفشاء أسرارنا من قبل بعض مما نحسبهم من العائلة أو الأقارب أو الجيران أو الأصدقاء أو..إلخ