ملخص كتاب رعشة المأساة
نقد أعمال غسان
- يبدأ الكاتب حديثة بالكلام عن حركة النقد الأدبي في الثقافة المعاصرة، وأن النقد الأدبي لا يمكن أن ينمو ويرتقي إلا إذا سبقته إندفاعة أدبية زاخرة بشتى الألوان الفنية، فالنقد تابع للأدب وليس سابقاً له. ويضرب على ذلك أمثلة كأرسطو والجرجاني وجونسون..إلخ من نقاد سبقهم أعمال أدبية مهمة.
- منتقلاً بعد ذلك للنقود التي وجهت لكتابات غسان كنفاني، متسائلاً (لماذا لم تعلن أين من تلك النقود أن "أم السعد" ليست رواية، وأن "عائد إلى حيفا" لا تعدو كونها قصة قصيرة؟ وأن غسان وضع حجر الأساس في صرح الأدب التراجيدي لثقافتنا؟) وعدة أسئلة أخرى تدور حول النقد الموجه لأعمال غسان.
- سيطرت عقدة الذنب على معظم أبطال غسان بوضوح، كما أن أبطاله يصدرون صدوراً منطقياً عن ضروراتهم التاريخية.
أهمية غسان كنفاني كما يراها الكتاب:
- أنه يرسم الروح في هوانه وسقوطه.
- أنه أول كاتب عربي أستطاع أن ينقل الكارثة الفلسطينية إلى حيز الروايط.
- أنه أول من قدم فهماً تطبيقياً عميقاً للتراجيديا.
- أن جوهر الرواية لديه تُخضع التاريخ للمحاكمة وتدينه.
التراجيديا و"رجال في الشمس":
- يقول الكاتب أن التراجيدي يفصح عن ذاته ضمن شكل له قابلية الإمكان وله القدرة على كشف المنطويات اللامرئية للداخلي. وغسان يطال حركة الإنسان (جملة سلوكاته) لا بوصفها مصيراً فحسب بل من حيث هى تحديد للماهية أو جملة غلائم الهوية.
- والتراجيدي تحديد للهوية وللمصير، وهذا يؤكد أن التراجيدي تاريخي في نظر غسان، فالخلفية المسحوقة للأبطال الثلاثة هى جرثومة المأسوي الذي يفقس بيوضه في ذواتهم.
- ابطال الرواية يسيرون نحو ختفهم المحتوم محكومين بشرطهم الخارجي من جهة، وبالخلل الذي يحمله كل منهم في كيانه من جهة أخرى.
- بعد ذلك يعود الكاتب للحديث عن التراجيدي في وقائع التاريخ العربي والشعر الجاهلي، ضارباً مثال الحسين والمتنبي على ذلك.
- في"رجال الشمس": التراجيدي، لحظة السقوط المدمر، نتاج ضمور الذات، تقصلها، انكماشها، صغارها، قبولها بالهوان.
- ان الفجائعي يتحول إلى تراجيدي لأن البطل يموت مداناً مع أنه كان بوسعه أن يموت غير مدان، وهذا أمر لا منطقي.
- يقول الكاتب (ان جوهر التراجيديا موجود بالسؤال الكنفاني "لماذا") ومتسائلاً (حدث ذلك مع وجود بديل له؟ أما كان أجدى لو أن الأبطال الثلاثة قاموا بقرع الخزان) تابعاً إياها بأسئلة أخرى عن "عطيل" و "هملت" و"هملت" و"الحسين" و"المتنبي". ليدلل بذلك أن جوهر التراجيديا يكمن في أن البشر مسوقون بفعل قوة عظيمة قد تقع داخلهم أو خارجهم أو الأثنين معاً.
- إذا ما تفحصنا البنيان الحدثي لهذه الرواية فأننا نجد أن كل ما فيها يتصاعد باتجاه الكارثة. مثال أبا قيس بعيداً عن زوجته وأطفاله، وأستشهاد الأستاذ سليم قبل سقوط القرية بليلة واحدة فقط، ووفاة طفلة أبي قيس بسبب هزال شديد، ثم يكمل بعد ذلك كلامه عن أحداث الرواية.
- ينتقل الكاتب بعد ذلك للحديث عن أسعد ورحلاته، وأنه لا يبدي أي أحساس بالكارثة مثل أبو قيس. بعد ذلك يذكر مروان وارتيابه بامكانية الوصول، وانه يشترك مع رفيقيه في سمة العطالة والعجز عن الفعل.
- يناقش بعد ذلك تفاوض الرجال الثلاثة وحوارهما مع أبي الخيزران، وإدراكهم للخطأ التراجيدي الكامن في النزول للخزان للهروب.
- يقول الكاتب: ان ما يهمنا بالدرجة الأولى لدى تحليل "رجال في الشمس" هو استبار مبدأ التراجيديا الكامن فيها، وهو ما يمكن أن يكون رمزاً شمولياً للرواية يجعلنا نغض الطرف عن رموزها الثانوية كافة.
- إن ما يفعله غسان داخل هذه الرمزية هو: طالما اننا نملك بديلاً عن الموت المجاني، فاية لا عقلانية هى التي تدفعنا نحو الموت واجتناب بديله!
- إن لحظة موت الأبطال لا تهزنا كثيراً، لأن الدخول الأول في الخزان لمدة ست دقاق وأثره على أجساد الرجال، يحذف عنصر المفاجأة. فالتراجيديات المشهورة مثل (سقوط أوديب، ومقتل مكبث، وموت لير، ونهاية فاوست) تجد بها لحظة السقوط ليست مفاجئة تماماً.
- يذكر الكاتب السبب الذي جعل الكنفاني بخطط الرواية بحيث يموت الأبطال في المرة الثانية من نزولهم الخزان بدلاً من الأول، فيقول إنه لو فعل ذلك لتدنى المستوى التراجيدي للرواية. فلو مات الرجال الثلاثة لدى النزول الأول في الخزان لما أدينوا لإنهم ببساطة يجهلون الخزان، أما أن يموتوا في النزول الثاني للخزان فهم بذلك يدللون على عطالة مطلقة.
- إن الخلل التراجيدي في الشخصيات الثلاثة ليس خللاً وجودياً أو ميتافيزيقياً -كما هو الحال في المسرحية الإغريقية- إنما هو خلل تاريخي ولا يمكن أن يمحوه إلا التاريخ.
- وعطالة الأبطال هى ما يحرم الرواية من عنصر الصراع، إذ يأتي التضاد في هذه الرواية مع عالم لا يملكه هؤلاء البؤساء، بل هو الذي يملكهم ، ومع ذلك فإنه تضاد بلا صراع.
- يرى الكاتب أن من العبث العراك حول رمزية بعض جزئيات الرواية. فإذا ما كان ابو الخيزران رمز للقيادة الفلسطينية أو للشيطان نفسه، فهذا لا يعني كثيراً، وإذا كان المهربون البصريون رمزاً للقيادات العربية أو للإستغلال أو أي شئ، فهذا لا يعني كثيراً أيضاً، وإذا كان موظفوا الحدود رمزاً للبيروقراطية العربية لا يعني كثيراً كذلك...فهناك رمز واحد هام وهو أن الأبطال الثلاثة هم المكافئ الروائي للشعب الفلسطيني ويمثلونه خير تمثيل، انهم موتى بلا قبور أو قبر الخزان الذي لا يستطيعون أن يروا فيه قبراً لهم.
- يؤكد الكاتب على أن الجوهر الفني لرواية "رجال في الشمس" –الواقعية الصارخة للتراجيدي- هو ما يجب أن يتخذ كنقطة إنطلاق، لكي ينمو الأدب الفلسطيني الموضوع، وليستطيع الأدب المعاصر أن يعبر عن القضية الفلسطينية.
تنفرد "رجال في الشمس" عن سواها من الراجيديات التقليدية بالآتي:
- ان غياب عنصر الصراع ليس نقصاً فنياً (وإن كانت التراجيديا تقوم على الصراع) بل هو المعنى والماهية. فالعطالة التي بيديها الأبطال هى ما قصده غسان عن سابق عمد وإصرار، لهذا فإن الرواية تكتسب قيمتها من غياب الصراع، فقد تمكن الكاتب من ادانة شعب بغير إرادة.
- إذا كان البطل التراجيدي يتميز –تقليدياً- بإنه كائن أستثنائي أرفع من المستوى العادي للأنسان، فإن أبطال هذه الرواية هم كائنات لا تبلغ المستوى المألوف للإنسان ودون ذلك بكثير.
"ما تبقى لكم" والتقابل المتلاحم:
- أن أدب غسان له سمات نفسية معينة أهمها (القلق والتمزق والضجر وعقدة الذنب والنزق الواقع على تخوم العصاب) تعتبر شخصية حامد في "ما تبقى لكم" أرقى محاولة بذلها غسان في سبيل النمذجة ومضمار التنميط.
موضوع هذه الرواية هو انفلات الفلسطيني من ماضية، ولهذا كان الزمن بطلاً من أبطالها ممثلاً بساعة الحائط وبساعة حامد. - • يضع الكاتب الروايات الثلاثة في مقارنة بقوله (إذا كانت "رجال في الشمس" هى الجحيم" فإن "ماتبقى لكم" هى المطهر، و"أم السعد" بمثابة الفردوس) وهذا الترتيب محكوم حتماً بعقدة الذنب.
تبدأ "ما تبقى لكم" بالدنس، بالسلب، وتنبثق منه وشيعة الرواية برمتها، وتنتهي بالنظافة بعد أن ينتصر الطهر عليه. - يتحدث الكاتب عن شخصية حامد والمسافة التي يحاول إجتيازها وهو مصاب بالدوار، ويرجع هذا القرار عندما أكتشف أخته "مريم" ملطخة..مما أجبره للبحث عن أمه التي تمثل الطهر. مستعرضاً بعدها حوار مريم والأرض الذي يعكس أشكال العلاقة بين مريم والدنس، وبين حامد والطهر.
- إن التقابل الذي عرضه غسان بين مريم والأرض هو جوهرة تقابل بين الطهر والتلوث، ففي حين تصمد الأرض أمام محاولات الحاصد، فإن المرأة بعد الولاد تتحول إلى مجرد زجاجة حليب.
- يتبع الكاتب: غسان الذي يتعامل مع الدنس في هذه الرواية لم يكن يعلم أن يقدم مستويين للدنس، أو يطرحه حاملاً لمعنيين هما في الأصل منفصلان لكنهما متلاحمان، فالمستوى الأول يرمي إلى أن أرض فلسطين هى بديل لوسخ المخيم، أو النضال النظيف هو درب الأخلاص من تلوث السقوط التاريخي لشعب معين (وهو حل عقدة الذنب التاريخية التي يعيشها غسان وأبطاله)، أما المستوى الثاني يرى في المرأة كائناً دنساً ملوثاً حتى بالزواج، ويرى في الولادة عملية تلطيخ لكل من المرأة والطفل.
- تنظر مريم إلى حامد من حيث هو ماضيها النظيف، فقد كانت تتحول كل يوم إلى أم له، وهو يتحول إلى رجل محترم بالنسبة إليها.
- إذا ما تمعنا الرواية جيداً فإن شخصية الأرض لا تبدو رمزاً لفلسطين بقدر ما تبدو مجرد أرض، أية أرض، أو الأرض بمطلقيتها وتجريدها.
- مثلما تعيش مريم عقدة الذنب نتيجة لسقوطها، فإن حامد يعيش عقد الذنب هو الآخر بسبب خذلانه للأرض التي يرى فيها تجسيداً للطهر والتمنع عن الدنس.
- في "ماتبقى لكم" ليس الدنس والطهر متعارضين فحسب، بل أن هنالك علاقة تضمُّن جوهرية تدعم الطهر بالدنس، ولهذا فإن الدنس نفسه يستحيل إلى القوة التي تنفيه عندما تقوم مريم بطعن زكريا، فمريم هى حوار الدنس والطهر في تضمن أخدهما للآخر. وبالمقابل فإن حامد (البحث عن الطهر) خو حوار (غير شفوي) مع الجندي الصهيوني. وعلة وجود أي من هؤلاء الأربعة هى علاقته بمقابلة أو تلاحمه معها.
- إن زكريا هو الوحيد المرشح للسقوط، ومريم لا تملك أن تتخطى ذاتها الا بقتل زكريا واسقاط الجنين. وقتل زكريا هو الضرورة التاريخية الناجمة عن حركة حامد وانتصاره على الجندي الصهيوني.
- تعمد غسان أن يترك مصير حامد والجندي معلقاً، لجعل النقيضين في حالة تلاحم وتقابل ويكون الحل مفتوح لذمة التاريخ.
- بعد حديث مطول عن الأربعة، يكمل الكاتب: ولما كانت مريم هى حس الدنس الخانع والذي هو جزء من محتوى الضمير الفلسطيني، فان انتصارها على نقيضها مشروط بانتصار حامد على الجندي. ولهذا نلاحظ أن الصراع بينها وبين زكريا كان يتصاعد بتصاعد الصراع بين أخيها وعدوه.
- إن "ما تبقى لكم" هى رواية صراع حاد، يستهدف استيلاد الشروط التي لا يحضر الخلاص بدونها.
- إذا كانت العطالة في "رجال في الشمس" هى التي ولدت المأساة، فأن الصراع في "ما تبقى لكم" هو الذي حقق الانتقال من حالة إلى أخرى. وإذا كانت الأولى هى نتاج عقدة الذنب، فإن الثانية تقع على نقطة تتوسط بين هذه العقدة وبين إنحلالها.
- ان غسان يعلم أن الإرادة الغائبة التي عكستها "رجال في الشمس" لن تظل غائبة طوال التاريخ، بل انها مجرد برهة سرعان ما تنطفئ لتتجلى الإرادة بكامل حضورها في "ما تبقى لكم".
- ولما كانت هذه الرواية انعكاساً للمضمون الروحي لشعب معين في مرحلة معينة، فقد جاء الأبطال لحظات تركيبية في وعي ذلك الشعب.
- يشبه الكاتب الرواية برواية "الصخب و العنف" لوليم فوكنر، فهى مثلها تعالج الدمار الذي يحل بأسرة معينة، ومثلما أن بناء رواية فوكنر يتجه من اللاعقلاني إلى الموضوعي، فإن رواية غسان تتجه من عالم غير متوافق مع العقل نحو عالم علقلاني نبلغه بالصراع.
- وتتشابه الروايتين أيضاً في تضارب الزمن، ونزعة حب الأقارب، وانهما تقدمان عالماً ملغمياً تتمازج فيه عدة قضايا وموضوعات. الا ان غسان يمتلك خصوصية تحقق له التفرد، وهى انه استطاعان يطبق هذه الناجية على وضع بعينه، أو على موضوع ذي طابع تاريخي.
"أم السعد" والتفكك البنائي:
- نجد بـ"أم السعد" عدم دفع الصراع إلى أقصى مدى ممكن قد انعكس على الحبكة والشخصيات معاً، فجاءت الأولى مفككة واهية وغائبة إلى حد ما، وجاءت الثانية محرومة من اغتنائها بالأبعاد الواسعة والحضور الثقيل.
- تبرز "أم السعد" الإنقلاب الكبير الذي طرأ على الحياة الفلسطينية إثر نشوب المقاومة.
- كان بوسع غسان أن يتخذ من أبي سعد بطلاً أساساً للرواية يبدأ به لا منتمياً وينتهي به مناضلاً، مبيناً خلال ذلك التراكمات النفسية للتحول الطارئ على شخصيته، ولو فعل ذلك لقدم رواية تخضع لأنضباط الضرورة فتحقق التلاحم البنياني مثلما تحقق سعة الشخصيات وعمقها.
- ينهي الكاتب كلامه: رغم ذلك كله، نلاحظ ان شخصية أم السعد نفسها صورة فنية رائغة للإنسان الفلسطيني المتفائل في أواخر الستينات، وربما كانت هى الإيجابية الأساسية للرواية.
الأسباب التي تجعل "أم السعد" ليست رواية:
- لا تعدو كونها تعاقباً للوحات متفاصلة تتعامل مع التبدلات الواسعة والعمية الطارئة على الواقع، وتعرض للتبدلات بنهاجية مسطحة خالية من الثراء النفساني ومن كل أشكال نفاذ البصيرة.
- ان النسيج مفكك، وذلك يجعل بوسعنا ان نحذف من جسد الرواية أو نضيف إليها، دون ان نشعر بأي فرق جذري، مما يعني انها واهية النبية وغير متلاحمة العناصر.
- انها محرومة من استخراج ونشر الحياة الباطنية التي هى النبض الصميمي الذي يرافق كل عمل فني.
- لا ينظمها قانون الضرورة الذي لا تقوم الرواية بدونه.
- لا تخبرنا شيئاً عن علل التحولات العميقة الآخذة بالترسخ في المجتمعات الفلسطينية، بل تكتفي بجملة من التقارير المتفاصلة.
- ضحالة الحياة الباطنية التي تجعل للشخصية ثقلاً مادياً كثيفاً.
- عدم خضوع الحبكة لقانون التطور الضروري المتراص المسار.
- تراخي الصراع الذي من شأنه أن يحيل الأحداث والشخصيات إلى تجسيدات هلامية مهوشة وغير مكتملة الحضور.
عائد إلى حيفا:
- ان عقدة الذنب هى ما تؤسس العلاقة التحتانية لرواية "عائد إلى حيفا"، يدين بها غسان نفسه وكذلك يدين الفلسطيني ويخاطبه.
- ربما كان غسان واعياً لاختيار أسمي الولدين أو فعلها عفوياً، ان خلدون أو "دوف" هو التشوية العامي لاسم خالد، أما خالد فهو "الباقي" أو المستمر، والمستمر هو المستقبل لا الماضي المشوه. (فمحو المستقبل للماضي هو جوهر هذا العمل الفني في الرواية).
- الفكرة التي بسطها حوار سعيد مع دوف، والرامية إلى أن الإنسان هو القضية، وهى التي تمحور حولها كل النقود التي وجهت إلى هذه القصة، فليست أكثر من فكرة ثانوية لا تقع في نواة هذا العمل.
- ان عقدة الذنب وفكرة الادانة لا تقتصر على لحظة واحدة في الرواية، فهى موجودة في كل صفحة تقريباً.
- إن "عائد إلى حيفا" تعتمد على الحوار أكثر مما تعتمد على الحدث، وهو حوار يستهدف بسط أفكار بالدرجة الأولى، ويستهدف ان يعرض حالة داخلية تفتقر إلى العمق.
- إن هذا العمل يتناول الواقع مجزوءاً، أي تنقصه الشمولية التي هى شرط أساسي لكل عمل روائي. لذا فهى ليست رواية وإنما أقصوصة ممطوطة بعض الشئ.
المجزوآت:
خلف غسان ثلاثة مجزوآت هى بمثابة بدايات لروايات ربما كان سيتاح لها أن تصبح أعمالاً فنية جبارة، وهى:
(أ) العاشق:
- قد تكون هذه القصة هى الملحمة التي كانت دوماً ضمير غسان لتأريخ الثورة الفلسطينية، منذ مطالع القرن وعبر السنين اللاحقة.
- إن قاسم "العاشق" هو رجل يتمتع بصفات استثنائية، جعلت الشيخ سلمان يشبهه بحصان فتي، وما هو بعاشق إلا بسبب العلاقة الحميمة التي تقوم بينه وبين الفرس "سمرا" فهو مغرم بالخيل. ورغم ذلك فهو مصاب بعقدة الذنب رغم أن ذنبه ناجم عن جريمة قتل لا عن شعور بالتقصير.
- يحاول الكاتب أن يكمل العمل فيقول: ان بطل غسان سينمو ويتطور باتجاه بطل ملحمي وطني، متنقلاً من مجرم قاتل إلى مناضل أصيل.
- يظن الكاتب أن من الممكن إتمام هذا المجزوء العظيم والصول إلى ملحمة عربية تراجيدية. فلو اتيح لها ان تكتمل لكانت مفخرة الوراية العربية والمأثرة الأساسية لغسان كنفاني، بسبب إحتدام الصراعين الداخلي والخارجي فيها.
(ب) الأعمى والأطرش:
- ان هذا المجزوء أشبه بكابوس لا يمكن لكاتب أن يستمر في كتابته دون تغيير جذري يطرأ على الأسلوب والنهاجية والشكل معاً، وهو ما حدث مع غسان بالفعل في الفصول الأخيرة.
- ان غسان يملك في هذه الرواية لغة لم يسبق له على الإطلاق أن قدم مثلها، فهى أقرب إلى لغة الشعر التصويرية، أو لغة الاستبار الباطني القادرة على إخراج الحياة الداخلية وتجسيمها في صورة فنية. يستعرض الكاتب بعد ذلك عدة نصوص ويحاول أن يثبت كلامه هذا بتساؤلاته.
- ان كل ما في المجزوء يشير إلى أن القصور المحيق بأرواح الأبطال مبعثة شروطهم الخارجية، أي أن العيب يقع في خارجهم وليس في داخلهم.
- ان خط سير هذه الرواية -كمعظم روايات غسان- ينتقل من العقدة إلى حلها، والشكل في كل مرحلة يوائم المعنى تماماً.
- يقترح الكاتب عنوان آخر لهذا المجزوء وهو أن تعنون "الظلام والنور" أو "انسكار الصمت" أو "العتمة المحطمة"، لأن هذه العناوين تناسب حركة الانتقال التاريخي للشعب الفلسطيني، وتناسب حركة انتقال الرواية من العقدة النفسية إلى حلها.
(جـ) برقوق نيسان:
- يعتقد أن هذا العمل هو آخر ما كتبه غسان، ويمكن المظر إليه من حيث هو قطعة متكاملة كقصة قصيرة.
- يلاحظ أن أهم ما به هو تلك الشروح الهامشية التي يقدمها الكاتب لتلعب دورين أساسين في القصة: الأول أنها تضفي عليها شيئاً من الواقعية وتوهم بأنها حدثت فعلاً، والثاني أنها تضي الحدث وتوضحه وتكمل ما هو ناقص في متن الرواية.
- أن غسان كان يتطور باتجاه رواية أبطالها يناضلون ولا يعيشون عقدة الذنب الناجمة عن الشعور بالتقصير، فأبطال "برقوق نيسان" كلهم في مأزق ولكنهم مع ذلك يتحلون بروح شجاعة إلى أبعد الحدود، كما أنهم بغير عقد إطلاقاً وبذلك يختلفون عن باقي أبطاله.
خاتمة:
- يؤكد الكاتب على أن هناك بنية واحدة تنظم معظم روايات غسان، ومحتواها أن الرواية تسير من عقدة الذنب والشعور بالقصور نحو حل العقدة بالتضحية والمواجهة.
- أن غسان لا يتعامل مع الجزئيات اليومية الدقيقة والصغيرة، أي لا يصف تفاصيل الشروط المعيشية والواقعية ليبين مدى مسؤولية هذه الشروط عن بؤس أبطاله.
- تؤكد المجزوآت الثلاثة الأخيرة أن غسان كان يتطور باتجاه تعميق الرواية الفلسطينية الموضوع، من خلال استحداث أشكال جديدة، ومن خلال تأسيس لغة روائية تتصف بقدرتها على حمل المعاني العميقة.
- في قلب كل رواية من روايات غسان يكمن العنصر الإجتماعي أو التاريخي، وهذا يعني أن الكاتب يعمد دوماً بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى تبيان السبب الذي من أجله تقدم الشخصيات على الفعل أو تحجم عنه.
- ان الرواية الكنفانية تبرز الظاهرة المراد دراستها بحيث يأتي حضورها امتلاء كامل يضغط على حواس القارئ ضغطاً يشعره بوجود الظاهرة الحقيقة أو الواقعية الكامنة وراء الحدث الروائي.
- يختتم الكاتب بقوله: أن غسان كان سيغدو اسماً عالمياً لامع يتخطى جدران الوطن العربي ليغدو جزءاً من ثقافة الإنسانية، لو لم تتلفقه أيدي الإغتيال وهو في الرمحلة الأاولى من مراحل نضجه.
التراجيديا واللغة في أعمال غسان
- يرى الكاتب ان الذين عايشوا غسان من موقع الكثب ما كان ليفوتهم ما يستتب في روح غسان من أصالة الوجدان التراجيدي الذي يتألف جذرياً من كبرياء مريرة ليشقى بها صاحبها ولا يسعد. فتراث غسان يهب العقل جملة الحق في استساغة مثل هذا الظن الذي يكاد أن يضارع اليقين.
ما التراجيديا؟
- إنها التجابه والضرورة، على عكس الحرية التي هى الركوب على ظهر الضرورة أو التصالح وإياها.
- إن كل حرف كتبه غسان ليشهد على أنه ما كان يكتب إلا انبثاقاً من هذه الرعشات.
- حاول غسان يصير فيلسوف الألم الفلسطيني وقديسه الأول، فكان يتطور في الإتجاه.
- ان غسان مخصوص بجملة من المواهب الفذة، فقد كان يكتب وفقاً لهذا المبدأ النبيل.
- في روايته "رجال في الشمس" نجد وجدان العار ممزوجاً بوجدان الفجيعة، فالحقيقة أن غسان يطارد الشعور بالخزي أمام الهزيمة منذ أول حرف كتبه حتى آخر حرف. إن المفارقة في هذه الرواية الإستهلالية تتلخص في أن وجدان العار وحس الفجيعة إنما يربضان في الكاتب لا في الأبطال.
- أن الأبطال في "رجال في الشمس" يناقضون البطل التراجيدي في الصميم، وأكبر فرق بينهم وبين البطل التراجيدي أن هذا الأخير فاعل وفعال ولا يسقط إلا لذلك وهو مزود بجرثوم الفعل الاستثنائي، أما هؤلاء القوم لا يجيدون أية فاعلية ليست سلبية.
- إن غسان في أواخر العقد السابع من القرن العشرين كف مؤقتاً عن الكتابة انبثاقاً من رعوشه التراجيدية. فقد كتب "عائد إلى حيفا" تحت ضغط هزيمة حزيران المعروفة، وكتب "أم السعد" بدافع التبني لظاهرة انتشار المقاومة الفلسطينية وتحولها إلى واقعة تاريخية راسخة.
- من الواضح أن كلاً من "عائد إلى حيفا" و "أم سعد" كتبتا بشئ من السرعة، والأهم من ذلك أن أسلوبهما يمثل خطوة إلى الوراء بالنسبة إلى أسلوب "ما تبقى لكم" وهو الأسلوب الذي يستعيده غسان في "برقوق نيسان" وكذلك في "الأعمى والأطرش".
- في رواية غسان "ما تبقى لكم" جاء النص لا بمثابة قفزة في موروث غسان وحسب، بل في الموروث النثري الفلسطيني كله. فنجد بها الطهر والدنس يتعارضان معاً باحتدام دافق ويندمجان في وحدة مصيرية متلاحمة.
- يرجع الكاتب مرة أخرى للحديث عن أبطال رواية "ما تبقى لكم" بداية من مريم إلى حامد حتى زكريا، ويعيد ما ذكره ليوضح كلامه.
ثم ماذا عن اللغة؟
- شخصيات "رجال في الشمس" أخذت من واقع مباشر، فوري ويومي، واقع تتحكم به مثنوية الخبث والسذاجة، لهذا كان لا بد من أن ينعكس طبع الموضوع على طبع اللغة، فاللغة بها لغة المغبونين التي لا تنم عن كبرياء الأعماق وعظمة العالم الجواني.
- يختلف الأمر جذرياً في "ما تبقى لكم" فالأبطال ذكريات أو حتى رعشات، فهم ينبعون من البعيد والعميق. كانت اللغة لغة رعش تتسلح بالروح الأسطوري، أو بمذاق الليل، وتندلق أو تتفور من النائي والعميق، من قصاء الذكريات التي غادرت إلى الأبد.
- من الواضح أن غسان قد كان يتطور تدريجياً صوب برهة تنتج النص التراجيدي، ولكن موته المبكر وعدم تفرغه للكتابة الأدبية، قد منعه من البلوغ إلى ذلك الطور اللازم لأعطاء النثر الفلسطيني سمة العالمية. فمؤلفاته مكظوظة بالعناصر التراجيدية الأصلية.
إرسال تعليق