ملخص كتاب عبقرية محمد للعقاد

كتاب عبقرية محمد لعباس العقاد


الفصل الأول (علامات مولد)

يبدأ العقاد كتابه (عبقرية محمد) بالفصل الأول الذي يتحدث فيه عن الحياة التي سبقت مولد النبي محمد ، إذ يذكر ذلك تنازلياً بدأً من العالم أجمع وصولاً إلى البيت الذي ولد به المصطفى. 

فيقول عن العالم: أنه كان عالم متداعي شارف النهاية، فقد العقيدة كما فقد النظام؛ أي أنه فقد أسباب الطمأنينة، طمأنينة الباطن (التي تنشأ من الركون إلى قوة في الغيب وبسط العدل)، وطمأنينة الظاهر (التي تنشأ من الركون إلى دولة تقضي بالشريعة) فإذا نظرنا إلى حال الدول آنذاك نجدها كالتالي:

  1. بيزنطة: خرجت من الدين إلى الجدل العقيم، وتضاءلت سطوتها في البر والبحر.
  2.  فارس: سخر فيها المجوس من دين المجوس، وشاعت بها الفتن ونوازع الشهوات.
  3. الحبشة: فهي ضائعة بين الأوثان وبين التوحيد. 

مما جعل العالم يتطلع إلى حال غير حاله، ويتهيأ للتبديل أو للهدم ثم للبناء...

أما (أمَّة العرب) فهي أمَّة ليست بذات دولة، ولكنها تتأهب لإقامة دولة، تيقظت لوجودها وشعرت بمكانتها ومواضع النقص وبالخطر الذي يحدق بها داخلي كان أو خارجي؛ فالخطر الخارجي من المحيطين بها الذين يجورون عليها ويريدون إخضاعها وابتلاعها، كهرقل الرومي الذي يرسل إلى مكة من يحكمها، وأبرهة الحبشي الذي يريد هدم كعبتها، وفارس التي تطغى على شرق البلاد وجنوبها. أما الخطر الداخلي فيتمثل في الفواحش والفساد، والشك في صلاح الأمور والعقيدة وطمأنينة الضمير.
ومن بين هذه الأمَّة (قبيلة) لها شعبتان: إحداهما من أصحاب الترف والطمع واستبقاء ما هو قائم على هواها، والأخرى من أصحاب التقوى والسماحة والتوسط بين مقام القوي ومقام الضعيف.
وبيت من تلك الشعبة الوسطى له كرم النسب العريق، هو بيت (عبدالمطلب) من صميم قريش، وهو رجل قوي الخلق والإيمان، نَذَرَ لئن عاش له عشرة بنين لينحرن أحدهم عند الكعبة.. ثم أحله قومه وأحلته العرافة من نذره، فأبى أن يتحلل حتى يستوثق من رضا الرب ورضا ضميره. ومن كان له هذا الخلق وهذا الضمير، فليس من عجب أن ينجب نبياً في زمان يستدعي الأنبياء، ومكان مهيأ لهم دون كل مكان.
وإذا كان (عبدالمطلب) جداً صالحاً لنبي كريم، فابنه (عبدالله) نعم الأب لذلك النبي الكريم؛ فقد كان إنساناً من طينة الشهداء، فهو الفتى الذي اختير للفداء، فجاشت له شفقة قومه حتى تركه لهم القدر، وهو الفتى الذي مات وهو غريب، وولد له نسله الكريم وهو دفين.
عالم يتطلع إلى نبي، وأمة ومدنية تتطلع إلى نبي ، وقبيلة وبيت وأبوان أصلح ما يكونون لإنجاب ذلك النبي. ثم ها هو رجل لا يشركه رجل آخر في صفاته ومقدماته، ولا يدانيه رجل آخر في مناقبه الفضلى.. نبيل عريق النسب، فقير وليس بالغني المترف، يتيم بين رحماء، خبير بكل ما يختبره العرب من ضروب العيش في البادية والحاضرة، فهو خلاصة الكفاية العربية في خير ما تكون عليه، وهو على صلة بالدنيا التي أحاطت بقومه.. أصلح رجل من أصل بيت في أصلح زمان لرسالة النجاة المرقوبة..ذلك محمد بن عبدالله عليه السلام.
قد ظهر والمدينة والجزيرة والدنيا كلها مهيأة لظهوره؛ لأنها محتاجة إليه، خلق ليكون رسولاً مبشراً بدين، وإلا فلأي شئ خلق، فالذي أعده له زمانه وأعدته له فطرته هو الرسالة العالمية لا سواها، وما من أحد قد أعد في هذه الدنيا لرسالة دينية إن لم يكن محمد قد أعد لها أكمل إعداد.
سبق ميلاده بشائر وصاحب ميلاده بشائر وحين ظهرت الدعوة واستفاض أمر الإسلام، وما من بشارة من تلك البشائر كلها كان لها أثر في إقناع أحد بالرسالة يوم صدع النبي بالرسالة أو كان ثبوت الإسلام متوقفاً عليها. لأن الذين شهدوها لم يعرفوا يومئذ مغزاها ومؤداها، والذين سمعوا بالدعوة وأصاخوا إلى الرسالة بعد البشائر بأربعين سنة لم يشهدوا بشارة واحدة منها، ولم يحتاجوا إلى شهودها ليؤمنوا بصدق ما سمعوه واحتاجوا إليه. أما العلامة التي لا التباس فيها ولا سبيل إلى إنكارها، فهي علامة الكون وعلامة التاريخ، فقد كانت الدنيا في حاجة إلى رسالة وكان محمد هو صاحب تلك الرسالة، ولا كلمة لقائل بعد علامة الكون وعلامة التاريخ.

الفصل الثاني (عبقرية الداعي)

اتفقت أحوال العالم إذن على انتظار رسالة، واتفقت أحوال محمد على ترشيحه لتلك الرسالة، فقد كان مستكملاً للصفات التي لا غنى عنها في إنجاح كل رسالة عظيمة من رسالات التاريخ؛ فقد كانت له فصاحة اللسان واللغة، والقدرة على تأليف القلوب وجمع الثقة، وقوة الإيمان بدعوته.

فمن حيث الفصاحة كان أعرب العرب، وساعده على ذلك النشأة القرشية البدوية الخالصة، وكان جمال فصاحته في نطقه، كجمال فصاحته في كلامه، فقد اتفقت الروايات على تنزيه نطقه من عيوب الحروف ومخارجها، وقدرته على إيقاعها في أحسن مواقعها، وخير دليل صادق على ذلك أحاديثه التي تبين لنا أنه أوتي جوامع الكلم، ورزق من فصاحة الموضوع كفاء ما رزق من فصاحة اللسان والكلام.

وكانت له مع الفصاحة صباحة ودماثة تحببانه إلى كل من رآه، وتجمعان إليه قلوب من عاشروه من الضعفاء والأقوياء، جامعاً  بذلك المحبة والثقة. كما كان  مشهوراً بصدقه وأمانته بين أعدائه وأحبابه، وامتلأ من العلم بمنزلته من ثِقَة القوم ما ساعده على هدايتهم وترغيبهم في دعوته.

وقد قضى محمد عليه السلام شبابه وهو يؤمن بفساد الزمان وضلال الأوثان، ولما آمن برسالته هو، ودعوة ربه إياه إلى القيام بأداء تلك الرسالة، لم يهجم على هذا الإيمان هجوم ساعة ولا هجوم يوم، ولم يتعجل الأمر تعجل من يخدع نفسه قبل أن يخدع غيره، ولكنه تردد حتى استوثق، وجزِع حتى اطمأن. فما من عجب إذن أن يكون صاحب دعوة بلغت من وجهتها الغاية التي بلغت، وإنما العجب ممن يغفلون عن هذه الحقيقية!!

ما من حركة في التاريخ تتضح للفهم إن لم يكن نجاح الدعوة المحمدية مفهوماً بأسبابه الواضحة المستقيمة التي لا عوج في تأويلها، وما من من شئ غير الغرض الأعوج يذهل صاحبه عن هذه الأسباب الطبيعية البينة.

وأما عن من دخلوا في الدين الجديد فهم لم يسلموا للإغراء بذات النعيم ومتعة الخمر والحور العين، كما لم يسلموا على حد السيف خوفاً من النبي الأعزل المفرد بين قومه، بل أسلموا على الرغم من سيوف المشركين ووعيد الأقوياء المتحكمين.. ولما تكاثروا وتناصروا حملوا السيف؛ ليدفعوا الأذى ويُبطلوا الإرهاب والعيد، ولم يحملوه ليبدأوا واحداً بعدوان، فلم تكن حرب من الحروب النبوية كلها حرب هجوم وإنما حروب دفاع وامتناع.

فقد نجحت دعوة الإسلام لأنها دعوة طلبتها الدنيا ومهدت لها الحوادث، وقام بها داعٍ تهيَّأ لها بعناية ربه وموافقًا أحواله وصفاته. فلا حاجة بها إلى خارقة ينكرها العقل، أو إلى علة عوجاء يلتوي بها ذوو الأهواء، فهي أوضح شئ فهمًا لمن أحب أن يفهم، وهي أقوم شئ سبيلًا لمن استقام. 

الفصل الثالث (عبقرية محمد العسكرية)

إن محمداً على اجتنابه العدوان كان يحسن من فنون الحرب ما لم يكن يحسنه المعتدون عليه، ولم المبادأة بالقتال لعجز أو خوف، ولكنه اجتنبه؛ لأنه نظر إلى الحرب نظرته إلى ضرورة بغيضة يلجأ إليها ولا حيلة له في اجتنابها حيثما تيسرت له الحيلة الناجحة.

وهناك حقائق تُظهر لنا الاختلاف بين الدين الإسلامي والأديان الأخرى في مسألة القتال، وهي كالتالي:

  1. الحقيقة الأولى: أن مطعن القائلين بأن الإسلام دين قتال إنما يصدق - لو صدق - في بداية عهد الإسلام كما أسلفنا يوم دان بهذا الدين كثير من العرب المشركين، ولولاهم لما كان له جند ولا حمل في سبيله سلاح. فقد صبر المسلمون على المشركين حتى أُمِروا أن يقاتلوهم كافة كما يقاتلون المسلمين كافة.
  2. الحقيقة الثانية: أن الإسلام انما يعاب عليه أن يحارب بالسيف "فكرة" يمكن أن تحارب بالبرهان والإقناع. ولكن لا يعاب عليه أن يحارب بالسيف "سلطة" تقف في طريقه، وتحول بينه وبين أسماع المستعدين للإصغاء إليه (لأن السلطة تُزال بالسلطة، ولا غنى في إخضاعها عن القوة).
    وقصد النبي بالدعوة عظماء الأمم وملوكها وأمراءها؛ لأنهم أصحاب السلطة التي تأبى العقائد الجديدة، وقد تبين بالتجربة بعد التجربة أن السلطة هي التي كانت تحول دون الدعوة المحمدية، وليست أفكار مفكرين ولا مذاهب حكماء؛ لأن امتناع المقاومة من هؤلاء العظماء والملوك كان يمنع العوائق التي تصد الدعوة الإسلامية.
    ومن التجارب التي دل عليها التاريخ الحديث كما دل عليها التاريخ القديم أن السلطة لا غنى عنها لإنجاز وعود المصلحين ودعاة الانقلاب، ومن تلك التجارب؛ تجربة فرنسا في القرن الماضي – السابق للعقاد – وتجربة روسيا في القرن الحاضر – في عصر العقاد – وتجربة مصطفى كمال في تركيا، وتجارب سائر الدعاة من أمثاله في سائر الدنيا. فمحاربة "السلطة" بالقوة غير محاربة "الفكرة" بالقوة، ولابد من التمييز بينهما لاختلافهما.
  3. الحقيقة الثالثة: أن الإسلام لم يحتكم إلى السيف قط إلا في الأحوال التي أجمعت شرائع الإنسان على تحكيم السيف فيها.
  4. الحقيقة الرابعة: أن الأديان الكتابية بينها فروق موضعية لا بد من ملاحظتها عند البحث في هذا الموضوع. فاليهودية كانت أشبه بالعصبية المحصورة في أبناء إسرائيل منها بالدعوة العامة، فكان أبناؤهم يكرهون أن يشاركهم غيرهم فيها، أما المسيحية فقد عنيت بالآداب والأخلاق، ولم تعن بالمعاملات والحكم. أما الإسلام فقد ظهر في وطن لا سيطرة للأجنبي عليه، وكان ذلك لاصلاح المعيشة وتقويم المعاملات وتقرير الأمن والنظام.
  5. الحقيقة الخامسة: أن الإسلام شرع الجهاد، وأن النبي عليه السلام قال "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم بحقها وحسابهم على الله". وحدث أن المسلمين فتحوا بلادًا غير بلاد العرب، ولم يكن يتأنى لهم فتحها بغير السلاح، إلا أنها تأخرت في الزمن، ولم يتم شئ منها قبل استقرار الدولة للإسلام، فلا يمكن أن يقال إنها كانت هي وسيلة الإسلام للظهور، وهو الذي قبلها وتمكن في أرضه، كما أن هذه الفتوح كانت تفرضها سلامة الدولة إن لم تفرضها الدعوة إلى دينها. بالإضافة إلى أن الإسلام قد أجاز للأمم أن تبقى على دينها مع أداء الجزية وهو أهون ما يطلبه غالب من مغلوب.
  6. الحقيقة السادسة: أن المقابلة بين ما كانت عليه شعوب العالم يومئذ قبل إسلامها وبعد إسلامها تدل على أن جانب الإسلام هو جانب الإقناع لمن أراد الإقناع. فقد استقر السلام بين تلك الشعوب ولم يكن له قرار، وانتظمت بينها العلاقات ولم يكن لها نظام، واطمأن الناس على أرواحهم وأرزاقهم وأعراضهم، وكانت جميعها مباحة لكل غاضب من ذوي الأمر والجاه. فالإسلام لم يوجب القتال إلا حيث أوجبته جميع الشرائع وسوغته جميع الحقوق.

  • لم يكن الإسلام إذن دين قتال، ولم يكن النبي رجلاً مقاتلاً يطلب الحرب للحرب، ولكنه كان نعم القائد البصير إذا وجبت الحرب ودعته إليها المصلحة اللازمة، يعلم من فنونها بالإلهام ما لم يعلمه غيره بالدرس والمرانة، ويصيب في اختيار وقته وتسيير جيشه وترسيم خططه إصابة التوفيق وإصابة الحساب، وإصابة الاستشارة.
  • وقد كانت غزوة بدر هي التجربة الأولى للنبي عليه السلام في إدارة المعارك الكبيرة، فلم يأنف أن يستمع فيها إلى مشورة (الحباب بن المنذر) حين اقترح عليه الانتقال إلى غير المكان الذي نزل فيه، ثم وعي من تجربة واحدة ما قلَّ أن يعيَه القادة المنقطعون للحرب من تجارب شتى، فلو تتبع حروبه ناقد عسكري من أساطين فن الحرب في العصر الحديث؛ لِيقترح وراء خططه مقترحاً أو ينبه إلى خطأ؛ لأعياه التعديل.

الخطط العسكرية في عهد النبي وأيام نابليون بونابرت

ونختار أبرع القادة المحدثين وهو (نابليون بونابرت) على أسلوب حرب الحركة، والذي ظهر في الحرب العالمية الثانية، أنه لا يزال الخطوة الأخيرة في جميع الحروب؛ لأن اختيار "بونابرت" يبين لنا السبق في خطط النبي العسكرية، بالمضاهاة بينها وبين خطط هذا القائد العظيم. فنابليون كان يوجه همه الأول إلى القضاء على قوة العدو العسكرية بأسرع ما يستطيع، وكانت عنايته الكبرى منصرفة إلى مبادرة الجيش الذي يعتمد عليه العدو بهجمة سريعة يفاجئه بها. ويمكن أن يستفيد بخطته تلك ثلاثة أمور (أن يختار الموقع الملائم له، والفرصة، وأن يعاجل العدو قبل تمام استعداده).

وكان النبي عليه السلام سابقاً إلى تلك الخطط في جميع تفصيلاتها، فكان لا يبدأ أحداً بالعدوان، ولكنه إذا علم بعزم الأعداء على قتاله لم يهملهم حتى يهاجموه، وكان يعمد إلى القوة العسكرية حيث أصابها، فيقضي على عزائم أعدائه بالقضاء عليها، ولا يضيع الوقت في انتظار ما يختاره أولئك الأعداء. وإضعاف أنصاره بتركه زمام الحركة في أيدي الهاجمين.

وإن كان نابليون يقول "إن نسبة القوة المعنوية إلى الكثرة العددية كنسبة ثلاثة إلى واحد"، فإن النبي عليه السلام كان عظيم الاعتماد على هذه القوة المعنوية التي هي في الحقيقة قوة الإيمان، وربما بلغت نسبة هذه القوة إلى الكثرة العددية كنسبة خمسة إلى واحد في بعض المعارك. ومعجزة الإيمان هنا أكبر مزية بلغها نابليون بفضل ما أودع نفوس رجاله من صبر وعزيمة، فالنبي عليه السلام كان يحارب عرباً بعرب، وقرشيين بقرشيين، فلا يقال هنا إن الفضل لقوم على قوم في المزايا الجسدية أو النفسية، كما يمكن أن يقال في جيوش نابليون.

وقد كان نابليون لا يغفل القضاء على القوة المالية، فكان يحارب الإنجليز بمنع تجارتهم وسفنهم أن تصل إلى القارة الأوربية، وهكذا كان النبي عليه السلام يحارب قريشاً في تجارتها، ويبعث السرايا في أثر القوافل. وكما كان نابليون يوجه اهتمامه للجيش ولا يقتحم المدن لغير ضرورة عاجلة، كان النبي عليه السلام أيضاً لا يحاصر محلة إلا أن يكون الحصار هو الوسيلة الوحيدة لمبادرة القوة التي عسى أن تخرج منها قبل استعدادها.

ومن حيث المشورة كان نابليون مع اعتداده الشديد برأيه في الفنون العسكرية لا يستغني عن مشاورة صحبه في مجلس الحرب الأعلى، كذلك كان محمد عليه السلام يستشير صحبه في خطط القتال وحيل الدفاع ويقبل مشورتهم أحسن قبول، كأخذه بمشورة (الحباب بن المنذر) في بدر، وبمشورة (سلمان الفارسي) في حفر الخندق.

كما كان النبي عليه السلام شديد الالتات إلى سد الثغور وحماية الظهور في جميع وقعاته، وخير مثال على ذلك في (غزوة أحد) حيث جعل الجبل إلى ظهره، وأقام على الشِّعب – الذي يخشى منه النفاذ والالتفاف – خمسين رامياً مشدداً عليهم في التزام موقفهم.

ولم يعرف عن قائد حديث أنه كان يعني بالاستطلاع والاستدلال عناية نابليون، وكانت فراسة النبي في ذلك مضرب الأمثال، ففي غزوة بدر سأل عبدين عن عدد الجيش فلما لم يعرفا العدد سأل عن عدد الجُزُرِ – أي الذبائح – التي ينحرونها كل يوم، فعرف قوة الجيش بمعرفته مقدار الطعام الذي يحتاج إليه.

واشتهر نابليون أنه كان شديد الحذر من الألسنة والأقلام (وكان يقول إنه يخشى من أربعة أقلام ما ليس يخشاه من شعرة آلاف حسام)، كذلك كان النبي عليه السلام عندما يبلغه عن بعض أفراد أنهم يخفرون الذمة التي عاهدوا عليها، ويشهرون به وبالإسلام، أو يثيرون العشائر لقتاله، فيُنفذ إليهم من يحاربهم في حصونهم أو يتكفل له بالخلاص منهم. وختاماً يمكننا القول أن الفرق بين حروب الإسلام وحروب نابليون، أن حروب الإسلام إنما هي حروب دعوة أو عقيدة، أما نابليون فالحرب بينه وبين أعدائه حرب جيوش وسلاح.

الأوامر المختومة في الحروب النبوية والحروب الحديثة:

في الحروب الحديثة يتردد ذكر الأوامر المختومة التي تصدر إلى قواد السرايا والسفن ليفتحوها عند مدينة معلومة، أو بعد مسيرة ساعات. ويكون القائد وحده مطلعًا على سر البعثة، ورجاله جميعًا يجهلونه، إلا قُبيلَ الحركة المقصودة بساعات معدودات. هذه الأوامر المختومة ليست بحديثة؛ فقد عُرفت في المأثورات النبوية على أتم أصولها التي تلاحظ في أمثالها، ومن ذلك أن النبي عليه السلام بعث (عبد الله بن جحش) ومعه كتاب أمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين؛ وفحواه أن "سِرْ حتى تأتي بطن نخلة على اسم الله وبركاته، لا تكرهن أحدًا من أصحابك على المسير معك، وامضِ فيمن تبعك حتى تأتي بطن نخلة، فترصد بها عير قريش وتعلم لنا من أخبارهم". وهنا تتجلى حكمة النبي عليه السلام في اشتراط الرغبة والطواعية، واجتناب القسر والإكراه.

وفي الحرب الحاضرة – يقصد الحرب العالمية الثانية – تجربة جديدة لهذا النوع من المستطلعين أو الرواد المتقدمين، فقد عرف أن هتلر يعتمد على أفراد من جنده يهبطون من الطيارات وراء الصفوف، فيتسللون إلى مراكز المواصلات ويعيثون بين القرى المعزولة، فيشيعون فيها الرعب والحيرة، ويوهمون من يراهم أن الجيش المغير كله على مقربة منهم، فلا جدوى لهم من الاستغاثة أو المقاومة، ويحمل معظم هؤلاء الرواد المتقدمين أجهزة للمخاطبة يستعينون بها على الاتصال برؤسائهم من بعيد. وعليه فإن الخطة الهتلرية فاشلة لا محالة إن لم ينفذها مريدون متعصبون غير مكرهين، ولا متشككين فيما هو موكول إليهم.

وقد كان من أسباب هزيمة نابليون في روسيا إهماله النصائح التي سمعها في مجلس الحرب من بعض الثقات قبل التوغل في الحرب الروسية؛ لاعتقاده خطأ أن القيصر سيطلب صلحه بعد أسابيع. وأيضاً أن الروس كانوا يتراجعون أمامه تحت جنح الظلام، ويخلون المدن والطرقات حتى لا يرى فيها دياراً يسأله عن مكان الجيش المتراجع أو يعينه على الاستطلاع. أما هتلر فقد أُتي من قِبل هذين النقصين كما اشتهر أنه كان في مجلس الحرب على خلاف مع قواده الثقات الذين علموا من شأن الروس ما ليس له به علم، واشتهر باستطلاع أخبار القوم. أما محمد عليه السلام لم يتعلم ما تعلمه هتلر ونابليون، ولكنه لم يخطئ قط مثل هذا الخطأ في جميع غزواته وكشوفه؛ ولعلنا نفهم أن دراسته ضرب من دراسة العصر الحديث والقادة المحدثين.


  • وقد كان محمد قائد ملهم خبير بتجنيد بعوث الحرب وبعوث الاستطلاع خبيرًا كذلك بتجنيد كل قوة في يديه متى وجب القتال. والدعوة في الحرب لها غرضان أصيلان بين أغراضها العديدة؛ أحدهما إقناع خصمك والناس بحقك، وثانيهما إضعافه عن قتالك بإضعاف عزمه وإيقاع التشتات بين صفوفه.
  • أما إذا نظرنا إلى فكرة القائد، أمكننا أن نعرف كيف أن توجيه ألف رجل قد يدل على براعة في القيادة لا نراها في توجيه مليون، بينهم الراجل والراكب، ومنهم من يركبون كل ما يركب من مخلوقات حية وآلات مخترعة. وهذه الفكرة هي التي ترينا محمدًا عليه السلام قائدًا حربيٍّا بين أهل زمانه بغير نظير في رأيه وفي الانتفاع بمشورة صحبه، وتبرز لنا قدرته النادرة بين قادة العصور المختلفة في توجيه كل ما يتوجه على يدي قائد من قوى الرأي والسلاح والكلام.
  • ومن خصائص العظمة النبوية في محمد عليه السلام أنه وصف بالنقيضين على ألسنة المتعصبين من أعداء دينه؛ فهو عند أناس منهم صاحب رقة تحرمه القدرة على القتال، وهو عند أناس آخرين صاحب قسوة تُضرِيه بالقتل وإهدار الدماء البشرية في غير جريرة، وتنزه محمد عند هذا وذاك، فإذا كانت شجاعته عليه السلام تنفي الشبهة في رقة الضعف والخوف المعيب، فحياته كلها من طفولته الباكرة تنفي الشبهة في القسوة والجفاء.
  • أما بالنسبة للحوادث التي ذكرها المتعصبون ليستدلوا بها على إهدار الدماء في غير جريرة، فأكثرها لم يثبت قط ثبوتًا يقطع الشك فيه، ولا سيما القول بتحريض النبي عليه السلام على قتل (عصماء بنت مروان اليهودية) لأنها كانت تهجو الإسلام والمسلمين، فالنبي عليه السلام قد نهى في قول صريح عن قتل النساء وكرر نهيه في غير موضع. والحادث الوحيد الذي يستحق الالتفات إليه هو مقتل (كعب بن الأشرف) الذي كان مع قومه (بني النضير) معاهدًا على أن يحالف المسلمين، فنقض العهد وزاد على نقضه تأليب العرب على النبي وصحبه، وأنه رجع إلى المدينة فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم وافترى عليهن وعليهم.
  • ويلحق بقتل ابن الأشرف ما أخذه بعض المستشرقين من قتل بعض الأسرى بعد (غزوة بدر) وخروج النبي إلى ساحة الحرب لرؤية صرعى المعركة وغنائمها بعد انتهائها، فهو أمر لا يصح الحكم فيه إلا بالنظر إلى موضعه وموقعه وأشخاصه، لأنه ليس بالحكم العام الذي اتبعه الإسلام في جميع الأسرى وجميع الحروب، وإنما هي حالة أفراد كانوا معروفين بتعذيب المسلمين والتنكيل بهم في غير مبالاة ولا نخوة.
  • وكحادثة أخرى يتناولها المؤرخون وهي حادثة (بني قريظة) يستعظمون قتلهم بعد معركة الأحزاب ويحسبونه مخالفاً للعرف المتبع في الحروب، وينسون أنهم حنثوا في أيمانهم مرات؛ فلا يجدي معهم أخذ المواثيق من جديد. وينبغي أن يسأل الناقدون أنفسهم: ماذا كان مصير المسلمين لو ظفرت بهم الأحزاب؟ فالقضاء الذي قضاه النبي في بني قريظة عدل وحكمة وصواب، وما من أحد يقضي غير ذلك القضاء وهو مؤتمن على مصير أمة يرحمها من غدر أعدائها.

 

الفصل الرابع (عبقرية محمد السياسية)

عهد الحديبية:

تولى النبي عليه السلام أعمالًا كثيرة مما يطلق عليه لفظ السياسة في عموم مدلوله، ولكننا لا نعرف بينها عملًا واحدًا هو أدخل في أبواب السياسة، وأجمع لضروبها، وأبعد عن المشاركة في صفة القيادة العسكرية أو صفة الوعظ العلني أو سائر الصفات التي اتصف بها عليه السلام من عهد الحديبية في مراحله جميعًا، منذ ابتدأ بالدعوة إلى الحج إلى أن انتهى بنقض الميثاق على أيدي قريش.

ففي عهد الحديبية تدبير محمد في سياسة خصومه وسياسة أتباعه، وبدأ بالدعوة إلى الحج، وشمل ذلك كل المسلمين وكل من أراد الحج من أبناء القبائل العربية التي تشارك المسلمين في تعظيم البيت والسعي إليه، فجعل له وللعرب أجمعين قضية واحدة في وجه قريش، وفصل بذلك بين دعواها ودعوى القبائل الأخرى، ثم أفسد على قريش ما تعمدوه من إثارة غضب ونخوة العرب وتوجيهها إلى مناوأة محمد والرسالة الإسلامية.

وقد طبقت كثيراً مثل هذه المقاومة السلبية التي تتجنب العنف في العصور الحديثة، وخير مثال على ذلك هو الحركة الهندية التي قام على رأسها غاندي وتابعه فيها بعض مريديه، حتى كان لها من الأثر في إزعاج الحكومة البريطانية ما لم يكن للقنابل ولا للمشاغبات الدامية.

واستكمالاً لما حدث في الحديبية، فقد خرج النبي إلى مكة في رحلة الحديبية حاجٍّا لا غازيًا، فلم يفصل بهذه الخطة بين العرب وقريش وحسب، بل فصل بين قريش ومن معهم من الأحابيش، وجعل الزعماء وذوي الرأي يختلفون فيما بينهم على ما يسلكون من مسلك في دفعه أو قبوله أو مهادنته.

وقد تعاهد المسلمين وقريش في (صلح الحديبية) على أن من أتى محمدًا من قريش بغير (إذن وليه) رده عليهم، ومن جاء قريشًا من رجال محمد لم يردوه عليه، وأنه من أحب من العرب محالفة محمد فلا جناح عليه، ومن أحب محالفة قريش فلا جناح عليه، وأن يرجع محمد وأصحابه عن مكة عامهم هذا على أن يعودوا إليه في العام الذي يليه، ويقيموا بها ثلاثة أيام ومعهم من السلاح السيوف في قُرُبها، ولا سلاح غيرها.

وقد كان هذا العهد عهد مهادنة (عهداً لإيقاف أعمال العداء)، فلو أن النبي عليه السلام شرط على قريش أن ترد إليه من يقصدها من رجاله لنقض بذلك دعوى الهداية الإسلامية، فالمسلم الذي يترك النبي باختياره ليلحق قريشًا ليس بمسلم وهي أولى به من نبي الإسلام، أما المسلم الذي يرد إلى المشركين مكرهًا فإنما الصلة بينه وبين النبي هي الإسلام، وهو شيء لا سلطان عليه للمشركين، ولا تتقطع الصلة فيه بالبعد والقرب. 

وما انقضت فترة وجيرة حتى علمت قريش أنها هي الخاسرة بذلك؛ فالمسلمون الذين نفروا من قريش ولم يقبلهم محمد في حوزته رعاية لعهده، قد خرجوا إلى طريق القوافل على تجارة قريش يأخذونها وهي أمان في عهد الهدنة بين الطرفين، فلا استطاع المشركون أن يشكوهم إلى النبي لأنهم خارجون من ولايته بحكم الهدنة، ولا استطاعوا أن يحجزوهم في مكة كما أرادوا يوم أملوا شروطهم في عهد الحديبية، ولو قضى العهد بولاية النبي على من ينفر من مسلمي مكة لجاز للمشركين أن ينقضوه أو يطالبوا النبي بالمحافظة عليه.

وتم العهد فعرف من لم يعرف ما أفاء على الإسلام بعد قليل، فجهر بمحالفة النبي، واستراح النبي من قريش ففرغ ليهود خيبر وللممالك الأجنبية يرسل الرسل إلى عظمائها بالدعوة إلى دينه، وفتح الأبواب لمن يفدون إليه ممن أنكروا بغي قريش، وأمِنُوا أن تكون نصرتهم للإسلام حربًا يبتلون فيها بما لا يطيقون.

فتح مكة:

وفي السنة التالية نادى الرسول أصحابه أن يتجهزوا للحج ولا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية، فخرجوا في شوق المنطلق بعد منع والمنتظر بعد صبر، وخرج معهم جمع كبير ممن لم يشهدوا الحديبية يتبعهم النساء والأطفال، وساقوا أمامهم ستين بدنة مقلدات للهدي، وقد حملوا السلاح والدروع والرماح وعلى رأسهم مائة فارس يقودهم محمد بن سلمة. فلما فزعت قريش من حمل السلاح وأرسلوا رسولهم ليتبين ما جاء به رسول الإسلام، أخبره بأن حمل السلاح للحيطة، ثم أقبل عليه السلام على ناقته القصواء وجموع المسلمين محدقون به متوشحون بالسيوف يلبون ويهللون "لا إله إلا الله وحده نصر عبده، وأعز جنده وخذل الأحزاب وحده".

وكان الفتح الذي بصر به عيانًا من لم يره يوم الحديبية بنور البصيرة، وأسلم من الضعفاء والأقوياء من كان عصيٍّا على الإسلام؛ فريق منهم بهرهم وفاء النبي بعهده مع استطاعة نقضه، وفريق منهم راعهم سمت الدين ورحم الإسلام فيما بين المسلمين، وفريق منهم علموا أن العاقبة للإسلام فجنحوا إلى طريق السلامة والسلام، وحسبك أن عمرة القضاء هذه قد جمعت في آثارها من أسباب الإقناع بالدعوة المحمدية ما أقنع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وهما في رجاحة الخلق والعقل مثلان متكافئان، وإن كانا لا يتشابهان.

وهكذا تجلت عبقرية محمد في سياسة الأمور كما تجلت في قيادة الجيوش. فكان على أحسن نجاح في سياسته إذ نادى بعزيمة الحج وهو لم يفتح مكة بعدده وعدته، وإذ دعا المسلمين وغير المسلمين إلى مصاحبته في رحلته، وإذ توخى ما توخى من طريقة المسالمة وإقامة الحجة في إنفاذ عزيمته، وإذ قبل العهد الذي كبر قبوله على أقرب المقربين من عترته، وإذ نظر إلى عقباه ووصل به إلى القصد الذي توخاه.

الفصل الخامس (عبقرية محمد الإدارية)

يوجز العقاد الإدارة في الإسلام في بداية كلامه إذ يقول: في الإسلام أحكام كثيرة مما يدخل في تصرف رجال الإدارة كما نسميهم اليوم، وفيه وصايا كثيرة عن المعاملات، كالمساندة والمبايعة والاستقراض والشفعة والتجارة وسائر شئون المعيشة الاجتماعية يقتدي بها المشترعون في جميع العصور.

أما عن رسول الإسلام؛ فقد كان يوصي بالرياسة حيثما وجد العمل الاجتماعي. ومن حديثه المأثور "إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمِّروا أحدهم"، كما كان عليه السلام يرسل الجيش وعليه أمير وخليفة للأمير وخليفة للخليفة إذا أصيب من تقدمه بما أقعده عن القيادة، وكان قوام الرئاسة والإمامة عنده شرطان هما جماع الشروط في كل رئاسة، وهما الكفاءة والحب "أيما رجل استعمل رجلًا على عشرة أنفس علم أن في العشرة أفضل ممن استعمل فقد غش الله وغش رسوله وغش جماعة المسلمين" و"أيما رجل أم قومًا وهم له كارهون لم تَجُز صلاته أذنيه".

ولما كانت أوامر الإسلام ونواهيه معروفة لطائفة كبيرة من المسلمين، لم يترك عليه السلام أحدًا يدعي لنفسه حقٍّا في إقامة الحدود، وإكراه الناس على طاعة الأوامر واجتناب النواهي، غير من لهم ولاية الأمر وسياسة الناس. كما أن النبي لم يكتف بصريح التحريم في القرآن ولا بإسناد الأمر إلى غير معروف الصفة في تنفيذ الأحكام، بل خرج بنفسه ثم أمر رجلًا بعينه وأناسًا بأعينهم أن يمضوا في إتمام عمله، ولم يجعل ذلك إذنًا لمن شاء أن يفعل ما شاء.

أما عن الأمن والنظام، وتوطيد أركان الشريعة والقانون، فلا نعرف في كل ما قيل كلامًا هو أجمل لوجوه الصواب في هذه المسألة من قول النبي: "السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"، وأيضاً قوله "الإمام الجائر خير من الفتنة، وكل لا خير فيه، وفي بعض الشر خيار". فتلك وصية من ينظر في تدبيره للعالم الإنساني بأسره لا إلى سلامة مدينة واحدة أو فرد واحد، إذ ليس أصون للعالم من حصرالوباء في مكانه.

وقد تجلت عبقرية في الإدارة العليا في حلول التوفيق واتقان الشرور، فما عرض له تدبير أمر من معضلات الشقاق بعد الرسالة ولا قبلها إلا أشار فيه بأعدل الآراء، وأدناها إلى السلم والإرضاء. ونذكر من ذلك:

  1. عندما اختلفت القبائل على أيها يستأثر بإقامة الحجر الأسود في مكانه، فأشار محمد بالرأي الذي لا رأي غيره؛ عندما جاء بالثوب ووضع الحجر الأسود عليه وأشرك كل زعيم في طرف من أطرافه.
  2. كذلك عندما استقبلته الوفود في المدينة متنافسياً على ضيافته، وهو يشفق أن يقدح في نفوسها شرر الغيرة بتمييز أناس منهم على أناس، فترك لناقته خطامها تسير حتى بركت حيث طاب لها أن تبرك.
  3. وصنع ذلك يوم فضل بالغنائم أناسًا من أهل مكة على أناس من الأنصار، فلما غضب المفضولون لم يكن أسرع منه إلى إرضائهم بالحجة التي لا تغلب من يدين بها، حيث قال: "أوجدتم يا معشر الأنصار في لعاعة من  الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟.. فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار،اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار"... كلام مدير فيه الإدارة والرياسة هبة من هبات الخلق والتكوين؛ فهو مدير حين تكون الإدارة تدبير أمور، ومدير حين تكون الإدارة تدبير شعور..

الفصل السادس (البليغ)

"اللهم هل بلغت!" هذه هي اللازمة التي رددها النبي في خطبة الوداع، وهي خطبة الوداع. وهي لازمة عظيمة الدلالة في مقامها؛ لأنها لخصت حياة كاملة في ألفاظ معدودات. فما كانت حياة النبي كلها إلا حياة تبليغ وبلاغ، وما كان لها من فاصلة خاتمة أبلغ من قوله عليه السلام وهو يجود بنفسه "جلال ربي الرفيع فقد بلغت!".

وكلام النبي المحفوظ بين أيدينا إما معاهدات ورسائل كتبت في حينها، وإما خطب وأدعية ووصايا وأجوبة عن أسئلة كتبت بعد حينها وروعيت الدقة في المضاهاة بين رواياتها جهد المستطاع. والإبلاغ هو السمة المشتركة في أفانين هذا الكلام جميعًا، حتى ما جرى منه مجرى القصص أو مجرى الأوامر إلى المرؤوسين أو مجرى الدعاء الذي يُلَقنه المسلم ليدعو الله على مثاله.

وقد عرف عن النبي عليه السلام في حياته الخاصة والعامة أنه كان قليل الكلام معرضًا عن اللغو لا يقول إلا الحق وإن قاله في مزاح. فمن ثم لا عجب أن يخلو كلامه من الحشو والتكرار والزيادة، فإذا كرر اللفظ بعينه كما جاء في بعض المعاهدات فذلك أسلوب المعاهدات الذي لا محيص عنه، لأن تكرار النص يمنع التأويل عند اختلافه فهو أيضًا سمة من سمات الإبلاغ على سبيل التوكيد والتحقيق.

وكان عليه السلام يكره سجع الكهان الذي يخدعون به السامع ليوهموه أنه يستمع إلى طلاسم السحرة والشياطين، ولكنه لم يكن يأبى السجع بتة ولا يخلو كلامه من سجع يأتي على السجية، ويغلب أن يكون ذلك فيما يرتل علانية كالأذان وما هو في حكمه، أو فيما يحفظ من الوصايا الجماعة. ومذهبه في هذه الحلية اللطيفة مذهبه في كل حلية تليق بالرجل؛ فسجعه عليه السلام كحلية الذهب التي يليق بالرجل أن يتحلى بها.

وقد أعانه عليه السلام على أسلوب الإبلاغ أن الذين كانوا يستمعون إليه إنما كانوا يستمعون إلى كلام نبي محبوب مطاع. أما رسائله إلى الملوك والأمراء - ممن لم يسلم ولم يهتد - فإنما كانت للإبلاغ أول الأمر، ثم يأتي بعدها التفسير والتفصيل على ألسنة المرشدين والموكلين بالإجابة فيما يسألون عنه، فهي كذلك قائمة على كفاية الإبلاغ، تلك الكفاية الوسطى التي لا إفراط فيها ولا تفريط. 

ويعتبر أسلوب النبي كتابة وخطابًا أسلوب عصريٍ يقتدي به المعاصرون في زماننا هذا وفي كل زمان؛ لأنه أسلوب يخرج من الفطرة المستقيمة.

أما في الشعر فقد استحسن النبي ما قيل من الشعر في النضح عن الإسلام والذود عنه وعن أهله، فكانت آراؤه هذه وشبيهاتها آراء الأنبياء فيما يحمدون من كلام، لأنهم قد بعثوا لتعليم الناس دروس الخير والصلاح، ولم يبعثوا ليلقنوهم دروسهم في قواعد النقد والإنشاء.

وقد كان أقوى الإبلاغ في كلام النبي هو اجتماع المعاني الكبار في الكلمات القصار، والعلوم الوافية في بضع كلمات وقد يبسطها الشارحون في مجلدات. ومن أمثلة ذلك علم السلوك في الدنيا والدين، وقد جمعه كله في أقل من سطرين في قوله "احرث لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً". وقس على ذلك أمثال هذا الحديث في أصول السياسة والأخلاق والاجتماع وغيرها. فقد كان محمد عليه السلام فصيح اللغة فصيح اللسان فصيح الأداء. وكان بليغًا مبلغًا على أساس ما تكون بلاغة الكرامة والكفاية، وكان بلسانه وفؤاده من المرسلين، بل قدوة المرسلين. 

الفصل السابع (محمد الصديق)

تتم أداة الصداقة بالعاطفة الحية، والذوق السليم، والخلق المتين، وقد كان محمد في هذه الخصال جميعًا مثلًا عاليًا بين صفوة خلق الله. كان عطوفًا يرأم من حوله ويودهم ويدوم لهم على المودة طول حياته، وإن تفاوت ما بينه وبينهم من سن وعرق ومقام.

فعندما كان صبيٍّا في الثانية عشرة يوم سافر عمه، تعلق به حتى أشفق العم أن يتركه وحده فاصطحبه في سفره. وعندما جاوز الأربعين كان يحن على مرضعته حليمة ويكرمها، كذلك لم ينسى باقي مرضعاته ولا أقاربه من الرضاعة، حتى عندما أصبح شيخًا قارب الستين كان يبكى على قبر أمه بكاء من لا ينسى.

لم يتوقف عطفه عند البشر فقط فقد اتسع حتى بسطه للأحياء كافة ولم يقصره على ذوي الرحم من الناس ولا على الناس من غير ذوي الرحم، فكان يصغي الإناء للهرة لتشرب، وكان يواسي في موت طائر يلهو به أخو خادمه، وأوصى المسلمين برحمة الحيوان واتقاء الله فيه.

هذه العاطفة الإنسانية التي رحبت حتى شملت كل ما أحاطت به وأحاط بها، لم تكن هي كل أداة الصداقة، بل كان معها ذوق سليم يضارعها رفعة ونبلًا ويتمثل في رعاية شعورهم أتم رعاية وأدلها على الكرم والجود. ومع العاطفة الإنسانية والذوق السليم والأدب الكريم سمت جميل ونظافة بالغة وحرصاً على أن يراه الناس في أجمل مرآه. ومع هذا كله أمانة يثق بها العدو فما بال الصديق؟

كل هذه المزايا النفسية خليق أن يتم لصاحبها أداة الصداقة أوفى تمام، وأن يجعله محبًا لمن حوله جديرًا منهم بأحسن حب وولاء. فلم يعرف في تاريخ العظمة إنسان ظفر بنخبة من الصداقات على اختلاف الأقدار والبيئات والأمزجة والأجناس كالتي ظفر بها محمد، ولم يعرف عن إنسان أنه أحيط من قلوب الضعفاء والأقوياء بما يشبه الحب الذي أحيط به هذا القلب الكبير. وخير مثال على ذلك تفضيل (زيد بن حارثة) البقاء معه على الذهاب لأهله في صغره، وفرحة (بلال بن رباح) بقدوم الموت للقياه في جنة الرحمن..وغيرهم من الصحابة الأبرار سواء كانوا من الضعفاء أو الأقوياء كأبي بكر وعمر وخالد وسائر الصحابة الأولين.

فقد كان محمداً صاحب الفضل على أصفيائه جميعًا بما هداهم إليه من نور العقل ونور البصيرة، وهما أشرف من نور البصر لأنه نعمة يشترك فيها الإنسان والعجماوات، ونور العقل ونور البصيرة نعمتان يختص بهما الإنسان. وفوق ذلك كان يذكر فضلهم ويشيد بذكرهم. وما ثأر من أحد لأنه أساء إليه في شخصه، بل على العكس تماماً عفا عن رجل هم بقتله وهو نائم، وما حارب قط أجداً كان في وسعه أن يسالمه ويحاسنه.

هذه النفس المطبوعة على الصداقة والرحمة والسماحة ما أعجب اتهامها بالقسوة على ألسنة بعض المؤرخين الأوروبيين!.. ما أعجب اتهامها بالقسوة لأنها دانت أناسًا بالموت كما يدين القاضي مجرمًا بذنبه وهو من أرحم الرحماء؟ 

ما أعجبهم إذ يذكرون العقوبة وينسون الذنب الذي استوجب العقوبة كما يستوجب السبب النتيجة. وأي ذنب؟ ذنب لو قوبل به غير محمد لأراق فيه أنهارًا من الدماء وله حجة من سلطان الدنيا والآخرة.

فلا نذكر استهزاء المشركين به وإعناتهم إياه وإلقاءهم عليه القذر والحجارة، وائتمارهم بحياته وحياة أصحابه وإخراجهم المسلمين من ديارهم إلى أقصى الديار، ولا نذكر العناد والإغاظة والاستثارة لغير جريرة إلا أنهم دعوا إلى عبادة الله والتحلي بمكارم الأخلاق وترك عبادة الأصنام وترك الرذيلة. 

الفصل الثامن (محمد الرئيس)

كان لمحمد عليه الصلاة والسلام، الحق الأول في؛ سلطان الدنيا كما للأمير المطلق اليدين في رعاياه، وكان له من سلطان الآخر كل ما للنبي الذي يعلم من الغيب ما ليس يعلم المحكومون، وكان له من سلطان الكفاءة والمهابة ما يعترف به أتباعه أكفأ كفء وأوقر مهيب. ولكنه لم يشأ إلا أن يكون الرئيس الأكبر؛ بسلطان الحب والرضا والاختيار.

كما كان أعلم الناس أن الأعمال بالنيات ولكنه علم كذلك "إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم" فوكل الضمائر إلى أصحابها وإلى الله، وحاسب الناس بما يجدي فيه الحساب.

واليوم يكثر اللاغطون بحرية الفكر ويحسبونها كشفًا من كشوف الثورة الفرنسية وما بعدها، ويحرمون على الحاكم أن يؤاخذ الناس بما فكروا به ما لم يتكلموا أو يعملوا ويكن في كلامهم وعملهم ما يخالف الشريعة. فهذا الذي يحسبونه كشفًا من كشوف العصر الأخير قد جرى عليه حكم النبي قبل أربعة عشر قرنًا، وشرعه لأمته في أحاديثه حيث قال عليه السلام: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم به، أو تعمل به.

كما زعموا أن تقديم الرحمة على العدل في تطبيق الشريعة دعوة من دعوات المصلحين المحدثين لم يسبقوا إليها، وهي هي دعوة النبي العربي التي كررها ولم يدع قط إلى إلى غيرها، إذ قال "إن الله تعالى لما خلق الخلق كتب بيده على نفسه أن رحمتي تغلب غضبي" ، كما قال "إن الله تعالى لم يبعثي معنتاً ولا متعنتاً ولكن معلماً ميسراً". وروي عنه أنه ما خير بين حكمين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن فيه خرق للدين.

وكان يوصي بالضعفاء، ويقول لصحبه "ابغوني الضعفاء فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم" ويذم الترفع عن الخدم والفقراء. ومع الرحمة بالصغير لا ينسى حق الكبير إذ يقول: "من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا".

كما كان النبي الرئيس يعلم أن الرئاسة لجميع المرءوسين، وليست للموافقين منهم دون المخالفين، فيأمر قومه أن: "اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً فإنها ليس دونها حجاب". وإذا قال هذا رئيس ونبي فإنها لأولى السنن أن يتبعها الرؤساء كافة، لأنهم لم يبعثوا لنشر الدين ومحو الكفر كما بعث الأنبياء.

وختاماً يمكننا القول أن سُنة الرئاسة عند محمد هي سُنة الصداقة، فلو استغنى حكم عن الشريعة لاستغنى عنها حكم هذا الرئيس الذي جاء بالشريعة لجميع متبعيه. 

الفصل التاسع (الزوج)

تعرف مكانة المرأة التي وصلت إليها بفضل محمد ودينه، متى عرفت مكانة المرأة التي استقرت عليها في الجاهلية، ومكانة المرأة التي استقرت عليها في عصره - وبعد عصره - بين أمم أخرى غير الأمة العربية. وقياسان اثنان كافيان لبيان الفارق البعيد بين ما كانت عليه المرأة في الجاهلية وما صارت إليه بعد رسالة محمد:

  1. كانت متاعًا يورث ويقسم تقسيم السوائم بين الوارثين، فأصبحت بفضل الإسلام ونبيه صاحبة حق مشروع، ترث وتورث ولا يمنعها الزوج أن تتصرف بمالها وهي في عصمته كما تشاء. 
  2. وكانت وصمة تدفن في مهدها فرارًا من عار وجودها، فأصبحت إنسانًا مرعي الحياة، ينال العقاب من ينالها بمكروه، ولم تكن في البلاد الأخرى بأسعد حظٍّا منها في البلاد العربية.

فلا نذكر شرائع الرومان واستعبادها للنساء، ولا نذكر المتنطسين في صدر المسيحية وتسجيلهم عليها النجاسة وتجريدهم إياها من الروح. وكفى أن نذكر عصر الفروسية الذي قيل فيه إنه عصر المرأة الذهبي بين الأمم الأوروبية، وإن الفرسان كانوا يفدون النساء بالدم والمال؛ فهذا العصر كان كما قال الدارسون له: عصر الحصان، قبل أن يكون عصر المرأة. كما بقيت المرأة إلى سنة 1882م محرومة حقها الكامل في ملك العقار وحرية المقاضاة، وكان تعلُّم المرأة سبة تشمئز منها النساء قبل الرجال.

بينما حكم واحد من أحكام القرآن الكريم أعطى  المرأة من الحقوق كفاء ما فرض عليها: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف" (البقرة: 228)، كما أباح لها أن تكسب كما يكسب الرجال، ولم يفضل الرجل عليها إلا بما كلفه من وجاب كفالتها وإقامة أوَدِها والسهر عليها. أما محمد عليه السلام فكان يشفق عليهن أن يرينه غير باسم في وجههن ويتولى خدمة البيت معهن إذ قال "خدمتك زوجتك صدق"، كما جعل خيار المسلمين خيارهم لنسائهم: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقًا وخياركم خياركم لنسائهم"، وأمر مدارة ضعفهم ونقصهم.

وعندما سمع بحديث الإفك لم يقبله بغير بينة، ولم يرفضه بغير بينة، وكان عليه أن يعود زوجه المريضة أو يجفوها إلى حين، فعادها وبه من الرفق والإنصاف ما يأبى عليه أن يفاتحها في مرضها، وسأل من ينبغي أن يسأل (علياً وأسامة) وهما بمقام ولديه، و(بريرة الجارية) التي تعرف عائشة وتخلص لسيدها، وضرة لعائشة تنافسها وتكاد أن تضارعها في خطوتها (زينب بنت جحش) التي أسرع من يقول لو علمت شيئاً يقال؛ فاستعاذت بالله وقالت "أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيراً"، وآن له أن يفاتح عائشة وقد وصل النبأ إلى سمعها ولم يئن له قبل ذلك وهو كاظم ما في فؤداه مخافة أن يؤذيها بغير حق.. ولما قضى كل حق وانتهى به الاستيثاق إلى الثقة كان قد وفى الكرم والحمية والإنصاف والرحمة أجمعين.

تعدد الزوجات:

وننتقل للحديث عن تعدد زوجات النبي، وهو الهدف الثاني الذي يرميه المشهرون بالإسلام، فيكثرون من رميه كلما تكلموا عن أخلاق محمد عليه السلام، وذكروا منها ما يزعمونه منافياً لشمائل النبوة، مخالفاً لما ينبغي أن يتصف به هداة الأرواح. وقبل كل شيء لا نرى ضيرًا على الرجل العظيم أن يحب المرأة ويشعر بمتعتها. هذا سواء الفطرة لا عيب فيه، وما من فطرة هي أعمق في طبائع الأحياء عامة من فطرة الجنسين والتقاء الذكر والأنثى، فمن الذي يعلم ما صنع النبي في حياته ثم يقع في روعه أن المرأة شغلته عن عمل كبير أو عن عمل صغير؟ مَنْ مِنْ بناة التاريخ قد بنى في حياته وبعد مماته تاريخًا أعظم من تاريخ الدعوة المحمدية؟

ولم يشغل كل ذلك عن جليل أعماله وصغيرها، ولم نر هنا رجلًا تغلبه لذات الحس كما يزعم المشهرون، بل رأينا رجلًا يغلب تلك الملذات في طعامه ومعيشته وفي ميله إلى نسائه، فيحفظها بما يملك منها ولا يأذن لها أن تسومه ضريبة مفروضة عليه، ولو كانت هذه الضريبة بسطة في العيش قد ينالها أصغر المسلمين.

وقد كان معروفًا من صباه إلى كهولته، فلم يُعرف عنه أنه استسلم للذات الحس في ريعان صباه، ولم يسمع عنه أنه لها كما يلهو الفتيان حين كانت الجاهلية تبيح ما لا يباح، بل عرف بالطهر والأمانة والرصانة.

ولمَّا بنى بأولى زوجاته (خديجة) لم تكن لذَّات الحس هي التي سيطرت على هذا الزواج؛ لأنه بنى بها وهي في نحو الأربعين وهو في نحو الخامسة والعشرين، وأوتي الفتح المبين وليس له من زوجة غيرها، ولا من رغبة في الزواج بأخرى. ولم يكن وفاؤه لها بقية حياته وفاء للذات حس أو ذكرى متاع جميل لأنه فضلها على عائشة في صباها وهي أحب نسائه إليه.

ولو كانت لذات الحس هي التي سيطرت على زواج النبي بعد وفاة خديجة لكان الأحجى بإرضاء هذه الملذات أن يجمع إليه تسعًا من الفتيات الأبكار اللائي اشتهرن بفتنة الجمال في مكة والمدينة والجزيرة العربية، فيسرعن إليه راضيات فخورات، وأولياء أمورهن أرضى منهن وأفخر بهذه المصاهرة التي لا تعلوها مصاهرة. لكنه لم يتزوج بكرًا قط غير عائشة، ولم يكن زواجه بها مقصودًا في بداية الأمر حتى رغبته فيه (خولة بنت حكيم) التي عرضت عليه الزواج بعد وفاة خديجة.

أما سائر زوجاته عليه السلام فما من واحدة منهن - رضي الله عنهن - إلا كان لزواجه بها سبب من المصلحة العامة أو من المروءة والنخوة دون ما يهذر به المرجفون من لذات الحس المزعومة. ونذكر من ذلك:

  1. سودة بنت زمعة: ضمها النبي إليه بعد موت زوجها؛ حماية لها وتأليفاً لأعدائه من أهلها.
  2. أم سلمة: كانت كهلة مسنة يوم خطبها، كما قالت له معتذرة إليه لإعفائه من تكليف نفسه أن يتزوجها جبراً.
  3. جويرية بنت الحارث: كانت إحدى السبايا فتزوجها النبي ليعتقها ويحض المسلمين على ذلك.
  4. حفصة بنت عمر بن الخطاب: مات زوجها فعرضها أبوها على الصحابة فأبوا، وتزوجها النبي.
  5. رملة بنت أبي سفيان: تزوجها النبي بعد أن طلب من النجاشي إرسالها بعدما تركت أباها ووطنها لتسلم.

وفي حياة محمد الخاصة لا ينكر أحد أن بناءه بنسائه قد كان خيرًا من الإخلاء بينهن وبين التأيُّم والمذلة والرجعة إلى الكفر والضلالة، وكان خيرًا من قطع تلك الآصرة التي وصلت بينه وبين البيوت والعشائر، فكان لها ما كان من فضل في نفع الدين والمتدينين به، وهي ضرورة يلجأ إلى الاعتراف بها كل مسئول عن شئون أمة بل أمم تمارس الحياة الدنيا، وكل إمام عليم بطبائع الناس.

وقد اعترف نابليون بالضرورات الزوجية في العصر الحديث. فكيف اعترف بها (لينين) في الثورة الكبرى بعد الثورة الفرنسية؟ حل مشكلة الزواج بحل رابطة الزواج، فلا رابطة بين الزوجين أوثق من رابطة الرفيقين في الفندق أو الطريق. وليس أعجب ممن جعل الزواج شريعة ملائكة إلا الذي جعله على هذا النحو شريعة عجماوات.

أما بخصوص عقوبة الزوجات في الإسلام، فالقرآن ينص على العقوبات السائغة في حالة النشوز وهي العظة، والهجر في المضاجع، والضرب، والتسريح بإحسان في قوله تعالى في سورة النساء: "وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا" أما في الطلاق يقول تعالى في سورة البقرة "وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ". والنبي عليه السلام لم يطلق زوجة من زوجاته دخل بها وعاشرها، ولم يضرب قط واحدة منهن. 

وللتوضيح فإن ما نص القرآن عليه من عقوبة الضرب فإنما نص عليه لعلاج النشوز الذي لا يستقيم بغيره، وقيده المفسرون بشروط تمنع الإيذاء، وتحصره في القدر الذي يستقيم عليه الجزاء. اما العقوبة التي آثرها النبي عليه السلام فهي الهجر الطويل أو القصير، بعد العظة والعتاب الجميل. فالعقوبة هنا تكون لإبطال العصيان، ولن يبطل العصيان بشيء كما يبطل بإحساس العاصي غاية ضعفه وغاية قوة من يعصيه. والهجر في المضاجع هو مثابة الرجوع إلى هذا الإحساس.

على أن عقاب النبي لزوجاته كان من الندرة بحيث لا يذكر لولا ما تعود المسلمون من ذكر كل كبيرة وصغيرة في حياته الخاصة والعامة على السواء، وهذا مع طول العشرة وتعدد الزوجات وكثرة الحوادث الجسام وقلة النسل الذي يصل المقطوع ويرأب المصدوع.

الفصل العاشر (الأب)

فبعض العظماء من أكبر خدام النوع لم يتزوجوا، وفيهم أنبياء معظمون لا شك في سيرتهم من هذه الناحية، كعيسى عليه السلام. وبعض العظماء الذين تزوجوا لم يرزقوا الذرية، أو رزقوا ذرية كلها إناث، أو رزقوا ذرية من الإناث والذكور ولم يعيشوا، أو عاشوا ولم يعمروا ولا كانوا على حالة مستحبة من الصحة والنجابة. وتواريخ العظماء في جميع نواحي العظمة، وفي جميع الأمم، وفي جميع العصور، حافلة بالشواهد التي تعزز تلك الملاحظة وتجعلها خليقة بالتأمل والمراجعة.

فإذا جاز لنا أن نقف عند تلك الملاحظة وأن نتأمل مغزاها، وجاز لنا أن نفهم أن إصلاح شئون النوع الإنساني ضريبة تغني عن ضريبة الذرية في بعض الأحوال؛ فأين ترانا نجد تلك الضريبة في أرفع حالة وأغلى قيمة إن لم نجدها في رسالة نبوية تتناول الأجيال بعد الأجيال وتتناول الملايين في كل جيل؟ … وأي أبوة إنسانية تغني عن أبوة اللحم والدم كما تغني أبوة النبي الذي يتكفل بتربية الأرواح في أمته، وفي أمم لا يلقاها في زمانه، وأمم لا تزال تستجد بعد زمانه إلى أقصى الزمان؟

نذكر هذا حين نذكر حظ محمد من الأبوة الروحية ومن الأبوة النوعية. ونرى تكافؤًا في الجانبين جديرًا بالملاحظة والاعتبار؛ فمحمد الأب كان أصلح الآباء، ثم فجع في بيته فجيعة لا يداري فيها ألم الإنسان إلا صبر الأنبياء. ومن الراجح أن العطف الأبوي لم يتمثل قط في مولد أحد من أبناء محمد عليه السلام كما تمثل في مولد ابنه الذي سماه باسم جده الأكبر أملًا في أن يصبح بعده خليفته الأكبر، ولعل العطف الأبوي قد تمثل في تشييع هذا الطفل الصغير أشد من تمثله في استقباله يوم ميلاده.

ومحمد عليه السلام كان يحب التكاثر لنفسه ويحبه لأمته ويوصي المسلمين أن يستكثروا من النسل ما استطاعوا ليفاخر بهم الأمم وفرة وعزة. فاشتياقه إلى العقب من الذكور خليقة عربية تقترن بالخليقة الإنسانية والخليقة النبوية، فتزداد قوة على قوتها التي ركبت في جميع الطباع. وكان من أسباب هذا الشوق القوي طول العهد بالأبناء بعد من ولدتهم له السيدة خديجة رضي الله عنها، وشماتة أناس من شانئيه؛ سماه بعضهم بالأبتر لانقطاع معظم نسله، وفي ذلك نزول الآية الكريمة "إن شانئك هو الأبتر" (الكوثر: 3).

- فقد مضى نيف وعشرون سنة لم تلد له في خلالها زوجة من زوجاته، ومات في هذه الفترة كل أولاده ما عدا فاطمة رضي الله عنها التي ماتت بعده بقليل؛ مات القاسم، والطاهر طفلين، وماتت زينب، ورقية، وأم كلثوم، بعد أن تزوجن، ولم يتعوض من فقدهن ما يعزيه بعض العزاء..

- أما أزواجه الأخريات اللائي تزوجن قبله فلا نعلم من أخبارهن أنهن أعقبن لأزواجهن الأولين خلفًا غير (رملة أم حبيبة)، و(هند بنت أمية المخزومية)، وهذه كانت مسنة يوم بنى بها النبي عليه السلام، وفي عمر لا يستغرب فيه امتناع الولادة. فكلهن ما عدا هاتين لم يلدن للنبي ولا لزوج قبله، واجتماع هذه المصادفة ليس بالعجيبة المعضلة التي يصعب تعليلها إذا تذكرنا أن النبي قد توخى في اختيارهن تلك الأغراض العامة ولم يتحر منها النسل خاصة؛ وهي الإيواء الشريف والمصاهرة.

- وقد طال اشتياق النبي إلى الوليد المأمول، وتجدد اشتياقه في أثر كل زواج حتى جاءته مارية القبطية من قطر بعيد، فبشرته بعقب لعله غلام، واجتمع في هذا البشارة اشتياق نيف وعشرين سنة، ورجاء لا ينتهي بانتهاء الزمان..وولد إبراهيم؛ الطفل الذي نظر أبوه إليه يوم مولده فامتد به الأمل مئات السنين، بل ألوف السنين، وتخير له الاسم الذي وراءه أعقاب كأعقاب جده الأعلى، ليكون أبًا ويكون له أحفاد، ويكون لأحفاده من بعدهم أحفاد، ثم مات ذلك الطفل الصغير، ومات ذلك الأمل الكبير.. مات كلاهما والأب في الستين، أي صدمة في ختام العمر؟ أي أمل في الحياة؟

- وقد حزن عليه كما ينبغي له أن يحزن، أما الحزن الذي لا ينبغي له فهو الصراخ الذي نهى عنه، وهو أن تنكسف الشمس يوم موت إبراهيم فيحسب المسلمون أنها انكسفت لموته، ويقول الأب الذي انكسفت الشمس حقٍّا في عينيه: "كلا؛ إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته".

أوكان من الحتم أن يكون محمد - عليه السلام - مثال الآباء كما كان مثال الأنبياء؟ كذلك شاء القدر القادر، وكذلك رأينا محمدًا مثال الأب يوم ولد له إبراهيم، ومثال الأب يوم ذهب عنه إبراهيم. بل كان محمد مثال الأب حيثما كان له نسل قريب أو بعيد، وذكر أو أنثى، وصغير أو كبير. 

وخير مثال على ذلك نختتم به كلامنا هو الحسن بن فاطمة في طفولته، وقد دخل عل النبي فركب ظهره، وهو ساجد في صلاته؟ إن النبي في صلاته لهو النبي في مقامه الأسنى، وإن النبي في مقامه الأسنى ليشفق أن يشغل الصبي عن لعبه فيطيل السجدة حتى ينزل الصبي عن ظهره غير معجل. ويسأله بعض أصحابه: لقد أطلت سجودك؟ فيقول: "إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله!" 

الفصل الحادي عشر (السيد)

يتناول العقاد في هذا الفصل جانب المعاملة التي البني ومن هم دونه ممن يملك أمرهم ويقبض على زمامهم، ويقصد بهم الخدم والعبيد والأرقاء، وهي معاملة لها من الدلالة على الأخلاق، ما يندر أن تدل عليه معاملة أخرى، لأنها تأتي من طبائع النفس وعقائدها، ولا تأتي بأمر آمر أو بدعوة داع.

ويشير العقاد – متحدثاً عن الرق – في بداية كلامه عن مزية الإسلام بين الأديان الأخرى في مسألة الرق والاستعباد، لأن أناسًا يخلطون بين اعتراف الإسلام بنوع من الرق وبين اعتباره مسئولًا عن وجوده في الزمن القديم، فمن الواجب أن نذكر أولًا أن دينًا من الأديان الأخرى لم يأمر بإلغاء الرق في شكل من أشكاله، سواء رق الحرب أو رق النخاسة والبيع والشراء. بالإضافة إلى أن النظام الاقتصادي القديم في أساسه كان مرتبطًا بالاسترقاق أشد الارتباط. فكان إلغاؤه طفرة واحدة أقرب شيء إلى المستحيلات، ولم يكن أنفع في علاجه من التدرج خطوة فخطوة والابتداء بتصعيبه وترغيب الناس عنه، وهو ما شرعه الإسلام.

فالإسلام قد بدأ بتحريم كل رق غير رق الأسرى في الحروب، ثم حسن إطلاقهم وسماه منٍّا وعفوًا يشكر فاعله عليه: "فإِما منًّا بعدُ وإِما فِداء"، ثم أجاز للأسير أن يشتري نفسه، وأوجب حريته في حالات كثيرة يرجع معظمها إلى إرادته هو، إذا استطاع. ليصبح ذلك أجمل صنيع لقيه الأرقاء من دين أو شريعة.

بينما نجد عقل من أكبر العقول التي نبغت في أمة اليونان بل في الأمم كافة – ونعني به أرسطو – يقر الرق ويوجبه لأنه جعله سنة من سنن الفطرة وقيدًا لا فكاك منه لطائفة من الناس، خلقت عاجزة عن ولاية أمرها فلا غنى لها عن سيد ولا موئل لها من والٍ.

ولو وقف النبي عند هذا الحد في معاملة الأرقاء لأحسن وأجمل وامتاز بأمر دينه على كل محسن إلى الأرقاء في زمانه. إلا أننا نقرر الواقع ولا نتعداه قيد شعرة حين نقول إن كثيرًا من الأبناء لا يتمنون عند آبائهم خيرًا من المعاملة التي ظفر بها خدم محمد وعبيده. وخير مثال على ذلك عندما أعتق (زيد بن حارثة) ورآه أهلًا للزواج بعقيلة من أقرب قريباته إليه وأولاهن بحدبه وتوقيره، وهي التي رآها بعد ذلك أهلًا لزواجه بها وحظوتها لديه. ورفعه للمنزلة الاجتماعية التي يرتفع إليها السادة، ولا يثبتها شيء كما يثبتها شرف المصاهرة. 

ثم حفظ هذا البر الأبوي لابنه أسامة، فولاه جيش الشام وهو دون العشرين، وفي الجيش طائفة من أكابر الصحابة، فلو كان للنبي ولد في سنه لما تكفل به أحسن من هذه الكفالة، ولا ميَّزه أشرف من هذا التمييز.

وعندما خيرت شريعة الإسلام المحسنين بين المن وإعتاق الأسرى، وبين الفداء بالمال أو المبادلة. اختار محمد – عليه السلام - المن، وزاد عليه فأعتق كل أسير صار إلى حوزته، وزاد على العتق تلك الرحمة الأبوية التي شملت كل مُنتمٍ إليه، ولم يستبح في غضبه ما يستبيحه المعلم والوالد من ضرب وتعزير، وربما كانت كلماته للخادم المخالف أقرب إلى الملاطفة منها إلى العقاب. ومن ذلك قصة الوصيفة التي أرسلها فأبطأت في الطريق، فما زاد على أن قال لها حين عادت: "لولا خوف القصاص لأوجعتك بهذا السواك".

كذلك كانت رحمته بعبيد غيره كرحمته بعبيده؛ فكان يجاملهم ويجبر كسرهم ويقبل منهم الهدية ويكافئ عليها، ويلبي دعوتهم إذا دعوه إلى طعام، ويوصي بهم قائلًا: "اتقوا الله في الضعيفين النساء والرقيق". ولم يقبل عليه السلام خدمة من خادم يأنف الأحرار أن يقضوها له شاكرين. كما كان يكره أن تقبل يداه مخافة أن تجري العادة بهذا بين الناس فتحمل بينهم على محمل الذلة والخضوع.

ولقد يصح أن يقال إن حصة النبي من خدمة نفسه كانت أعظم من حصة خدمه، وإن تعويلهم عليه كان أكبر من تعويله عليهم، وإنه جعل الخدمة على سنته ضربًا من توزيع الأعمال، أو ضربًا من تعاون أبناء البيت الواحد فيما يستطيعه كل منهم من تدبيره وقضاء شئونه. ويقول في ذلك: "إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد". هذه كلمة السيد بإمامته، السيد بنسبه، السيد بسلطانه، السيد بالتفاف القلوب حوله، السيد بسيادته على سره وعلانيته ورأيه وهواه، ولو عمَّت هذه السيادة لبطل الاستعباد. 

الفصل الثاني عشر (العابد)

يحدد العقاد أربع طبائع في بداية كلامه وهم كالتالي (طبيعة العبادة، وطبيعة التفكير، وطبيعة التعبير الجميل، وطبيعة العمل والحركة) ويتبع ذلك بقوله هذه طبائع أربع تتفرق في الناس، وقلما تجتمع في إنسان واحد على قوة واحدة، فإذا اجتمعت معًا فواحدة منهن تغلب سائرهن لا محالة، وتلحق الأخريات بها في القوة والدرجة على شيء من التفاوت.

ومحمد بن عبد الله كانت فيه هذه الطبائع جميعًا على نحو ظاهر في كل طبيعة: كان عابدًا ومفكرًا، وقائلًا بليغًا، وعاملًا يغير الدنيا بعمله ولكنه عليه السلام كان عابدًا قبل كل شيء، ومن أجل العبادة - قبل كل شيء - كان تفكيره وقوله وعمله، وكل سجية فيه.

تهيأ للعبادة بميراثه ونشأته وتكوينه فولد في بيت السدانة والتقوى، وتقدمه آباء يؤمنون بإيمانهم، ويعتقدون ويخلصون فيما اعتقدوه. ونشأ يتيمًا وتعود التأمل والجد والعزوف عن عبث الصغار، والنظر إلى ما حوله بعين الناقد المترفع عن الدنايا، الجانح إلى الطهر واستقامة الضمير.

ومن الأقوال المتواترة أنه كان عليه السلام إذا نزل عليه الوحي نكس رأسه، وكرب لذلك وتربد وجهه، وأخذته البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان في اليوم الشاتي، وسمع عند وجهه كدوي النحل، وقد يصدع فيغلف رأسه بالحناء. وكانت أوصافه في غير حالة الوحي توافق الاستعداد الذي يرشحه لتلقي الوحي والنبوة، فكان حسٍّا كله وحياة كله. يراه من ينظر إليه فيرى فؤادًا يقظًا يتنبه لكل خالجة نفسية وكل نبأة خفية.

كما كانت عبادة محمد خلوٍّا بالنفس إلى حين، أو عجبًا من بدائع الكون التي ألفها الناس لأنهم لم يوهب لهم في أبصارهم وبصائرهم تلك النظرة الجديدة التي ترى كل شيء كأنه في خلق جديد. كذلك كانت عبادته عجب من بدائع الكون في كل نظرة يراها لأول مرة، وتفكير في الخلق ينتهي إلى الإيمان لأنه يبدأ بالعجب، ولا يزال أبدًا بين العجب والإيمان.

وقد ورد عن الرسول أحاديث كثيرة في التفكير والتفكر، خلاصتها أن التفكير في حقائق الوجود هو طريق الوصول إلى الله ولا طريق غيره للحواس ولا للعقل ولا للبديهة: إيمان بالوجود الأبدي في صفته المثلى، وتفكير في حقائق الوجود كما نراه ونحسها ونعقلها، وذلك قصارى ما عند العقيدة، وقصارى ما عند الفلسفة، وقصارى ما عند العلم إذ يقف العلم عند حده، وهذا هو العلم الذي فرضه الإسلام على كل مسلم ومسلمة.

أما عبادة الشعائر الظاهرة فهي عبادة الإسلام كما فُرِضت على جميع المسلمين؛ يصلي النبي ويصوم ويحج ويؤدي الزكاة على الشريعة التي يتبعها كل مسلم، وقد يطلب إلى نفسه في هذه العبادات ما ليس يطلبه إلى غيره، على سنة السماحة والتيسير التي أُثِرت عنه في كل عمل من أعماله وكل سجية من سجاياه. 

فكان أخف الناس صلاة على الناس وأطول الناس صلاة لنفسه. وربما قام الليل أكثره أو أقله ولا يدين أحدًا بالتهجد كما كان يتهجد أو بالصلاة والصيام كما كان يصلي ويصوم، بل قد نهى الناس أن يشتدوا في العبادة؛ فيصبحوا كالمنبتِّ "بل أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى". 

الفصل الثالث عشر (الرجل)

عاش في العصور الماضية كثير من العظماء الذين تواترت الأنباء بأوصافهم السماعية وأوصافهم المرسومة في الصور والتماثيل. غير أننا لا نعرف أحدًا من هؤلاء العظماء تمت صورته السماعية أو المنقولة كما تمت صورة محمد عليه السلام من رواية أصحابه ومعاصريه، فنحن نعرفه بالوصف خيرًا من معرفتنا لبعض المخلدين بصورهم وتماثيلهم التي نقلت عنهم نقل الحكاية والمطابقة، لأن هذه الصور والتماثيل قد تحكي للناظرين ملامح أصحابها ومعارفهم الظاهرة.. 

إلا أنها لا تحفظهم لنا كما حفظت الروايات المتواترة أوصاف النبي في كل حالة من حالاته وكل لمحة من لمحاته. وخلاصة المحفوظ من الروايات المتواترة أن النبي عليه السلام كان مثلًا نادرًا لجمال الرجولة العربية، كان كشأنه في جميع شمائله مستوفيًا للصفة من جميع نواحيها. وأنه استوفى شمائل الوسامة والمحبة والعطف على الناس، فكان على ما يختاره واصفوه ومحبوه، وكان نعم المسمى بالمختار.

وقد كان الرسول صلوات الله عليه، يقبل الدعابة ومن هذا عطفه على الضعف البشري في رجل مثل (عبد الله الخمار) الذي لقب بهذا اللقب لما اشتهر به من السكر والدعابة، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يحده من الخمر، ولا يتمالك أن يضحك منه. كذلك كان هناك (نعيمان بن عمرو) أشهر الأنصار بالدعابة، لا يراه النبي فيتمالك أن يبتسم، وربما قصد النبي ببعض هذه الدعابات لطمعه في حلمه وعلمه بموقع الفكاهة من نفسه.

فمن سعة النفس أن ينهض الرجل بعظائم الأمور بل بأعظمها جدٍّا ووقارًا وهو إقامة الأديان وإصلاح الأمم ثم يطيب نفسًا للفكاهة ويطيب عطفًا على المتفكهين ويشركهم فيما يشغلهم من طرائف الفراغ، فللجد صرامة تستغرق بعض النفوس فلا تتسع لهذا الجانب اللطيف من جوانب الحياة، ولكن النفوس لا تستغرق هذا الاستغراق إلا دلت على شيء من ضيق الحظيرة ونقص المزايا وإن نهضت بالعظيم من الأعمال.

أما في آدابه الاجتماعية كان قدوة الرجل المهذب في كل زمان. فلم يُر قط مادٍّا رجليه بين أصحابه، وتعود كلما زار أحدًا ألا يقوم حتى يستأذنه، ولم يكن ينفخ في طعام ولا شراب ولا يتنفس في إناء، وإذا أخذه العطاس وضع يده أو ثوبه على فيه، وربما نهض بالليل فيشوص فاه بالسواك، وكان يتطيب ويتحرى النظافة ويقول لصحبه: "اغتسلوا يوم الجمعة ولو كأسًا بدينار".

وخلاصة سمته وآدابه أنها سماحة في الأنظار وسماحة في القلوب؛ فالسماحة هي الكلمة الواحدة التي تجمع هذه الخصال من أطرافها، والسماحة هي الصفة التي ترقت في محمد إلى ذروة الكمال. وليس للنوع البشري أصل من أصول الفضائل يرمي لمقصدً أسمى وأنبل من تقديس تلك المناقب التي كان محمد قدوة فيها للمقتدين.

أما من ناحية الزهد فقد ثبت أن محمد – عليه الصلاة والسلام – لم يستمتع بدنياه ولم يشبع ثلاثة أيام تباعًا حتى مضى لسبيله، وقالت عائشة رضي الله عنها "لقد كنت أبكي رحمة له مما أرى به وأمسك بيدي على بطنه مما أرى به من الجوع..". كما رآه عمر – رضي الله عنه – وقد أثَّر في جنبه حصير فقال له: "يا رسول الله قد أثر في جنبك رمل هذا الحصير، وفارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله"، فاستوى جالساً وقال: "أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟.. أولئك قوم قد عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا". وقد مات ودرعه مرهونة، ولا ميراث لأهله مما ترك من عقار وهو قليل.

ورغم هذا لم يكن كارهًا لطيبات الدنيا، ولا حاضٍّا لأحد على كراهتها والإعراض عنها، فإذا قنع بما قنع فإنما فعل ذلك ليرتفع بإيمانه عن ظنه هو لا عن ظنون غيره. 

الفصل الرابع عشر (محمد في التاريخ)

لقد فتح الإسلام ما فتح من بلدان لأنه فتح في كل قلب من قلوب أتباعه عالمًا مغلقًا تحيط به الظلمات، فلم يزد الأرض بما استولى عليه من أقطارها فإن الأرض لا تزيد بغلبة سيد على سيد أو بامتداد التخوم وراء التخوم، ولكنه زاد الإنسان أطيب زيادة يدركها في هذه الحياة، فارتفع به مرتبة فوق طباق الحيوان السائم، ودنا به مرتبة إلى الله.

وقد عقد عالم أوروبي (الدكتور ماركس دودز) مقارنة بين محمد وبوذا والمسيح فسأل: "أليس محمد نبيًا على وجه من الوجوه؟" ثم أجاب قائلًا: "إنه على اليقين لصاحب فضيلتين من فضائل الأنبياء؛ فقد عرف حقيقة عن الله لم يعرفها الناس من حوله، وتمكنت من نفسه نزعة باطنية لا تقاوم لنشر تلك الحقيقة، وإنه لخليق في هذه الفضيلة أن يسامي أوفر الأنبياء شجاعة وبطولة بين بني إسرائيل، لأنه جازف بحياته في سبيل الحق، وصبر على الإيذاء يومًا بعد يوم عدة سنين، وقابل النفي والحرمان والضغينة ... فإذا سأل سائل: ما الذي دفع بمحمد إلى إقناع غيره حيث رضى الموحدون بعبادة العزلة؟ فلا مناص لنا أن نسلم أنه هو العمق والقوة في إيمانه بصدق مما دعا إليه".

والحقيقة التي يراها المنصف مسلمًا كان أو غير مسلم هي أن فتوح محمد فتوح إيمان، وأن قوة محمد قوة إيمان، وأنه ما من سمة لعمله أوضح من هذه السمة، ولا من تعليل لها أصدق من هذا التعليل. لقد جاء الإغراء الذي أشار إليه العالم الأوروبي وهو داعٍ مهدد في سربه، وجاءه وهو عزيز الشأن بين المؤمنين بدعوته، فما حفل بالإغراء وهو بعيد من مقصده ولا حفل به وهو واصل إليه.

وقد كان التاريخ – ومازال – هو فيصل التفرقة بين محمد وشانئيه؛ حكمه أنفذ من حكم الشانئين والأصدقاء، وأنفذ من حكم المشركين والموحدين، وأنفذ من حكم المتدينين والملحدين؛ لأنه حكم الله. وقد حكم له أنه كان في نفسه قدوة المهذبين، وكان في عمله أعظم الرجال أثرًا في الدنيا، وكان في عقيدته مؤمنًا يبعث الإيمان، وصاحب دين يبقى ما بقيت في الأرض أديان.

ويذكر العقاد سبب جعل التاريخ الإسلامي يبدأ من يوم هجرته إذ يقول متسائلاً: لمَ كان يوم الهجرة ابتداء التاريخ في الإسلام، ولم يكن يوم الدعوة؟ ولِمَ لم يكن يوم بدر أو يوم ولادة النبي أو يوم حجة الوداع يوم ابتداء التاريخ؟ كل يوم من هذه الأيام كان في ظاهر الرأي وعاجل النظر أولى بالتأريخ والتمجيد من يوم الفرار بالنفس والعقيدة في جنح الظلام. فالرجل الذي اختار يوم الهجرة بدءًا لتاريخ الإسلام قد كان أحكم وأعلم بالعقيدة والإيمان ومواقف الخلود من كل مؤرخ وكل مفكر يرى غير ما رآه؛ لأن العقائد إنما تقاس بالشدائد ولا تقاس بالفوز والغلب.

وقد كان (ابن الخطاب) في ذلك لنبيل ملهم الفؤاد - سواء كان هو المقترح أو مجيب الاقتراح - حين نظر إلى غار "ثور" ولم ينظر في التأريخ إلى نصر المدينة ولا إلى نصر بدر ولا إلى نصر أحد ولا إلى نصر فارس، ونظر إلى تلك "الجنود التي لم تروها" وقد نراها نحن الآن.

فقد كان يوم الغار يوم له عبرته وعزاؤه في كل يوم ولا سيما أيام القلق والحيرة والانتظار، إنه يوم عقيدة فهو يوم رجاء، ويوم نظر إلى المستقبل الذي ينظر إليه من ليس له رضا في حاضر عهده، وحاضر العالم في عهده هذا لا يرضي أحدًا من محبيه.

ويختتم الكاتب الفصل والكتاب بالحديث عن علي وأبي بكر – رضي الله عنهما – أكثر من ساعدا الرسول - صلوات الله عليه وسلامه - والمستقبل إذ يقول في نهاية كلامه: 

في التاريخ الإنساني كله لم تقم قط حركة عظيمة على الماضي الذي لا مستقبل بعده، إنما تقوم الحركات العظمى جميعًا على الرجاء في غد محجوب، أو على شيء يمكن أن يتحقق في حياة الإنسان، وشيء يبقى أبدًا موضع الرجاء البعيد

لقد كان (عليّ) فتى يستقبل الدنيا، وكان (أبو بكر) كهلًا يدبر عنها، يوم أعانا محمدًا في (يوم ثور) ولكنهما كانا معًا على أبواب غد واحد ورجاء واحد، يستوي فيه الفتى والكهل والشيخ الدالف إلى قبره، لأنه رجاء الإيمان لا رجاء العيان.

فماذا فتح الإسلام لأبي بكر من عوالم الحياة؟ هل رجع به إلى الماضي أو أقبل به على المستقبل؟ هل مشى به في حركة للأمام أو قفل به في رجعة إلى وراء؟  الحق أن الإسلام مثل المستقبل للشيخوخة كما مثل المستقبل للشباب، وكان يفتح أمام أبي بكر - وليس أمام علي وحده - باب الحياة الصالحة في الدنيا وباب الحياة الخالدة في الآخرة، وهكذا كل عقيدة فما هي بعقيدة على أي معنى من معاني الاعتقاد إن كان خيرها كله شيئًا يناله الإنسان في أيامه،  فلا مناص في العقيدة من خير وراء أيام الفناء. وعسى أن يكون المستقبل للإيمان، وعسى أن يستجد العالم عزاء باقيًا من يوم الغار ومن صاحب يوم الغار.